دور الأكاديميات السياسية في بناء ذهنية اجتماعية جديدة
18 ژوئن 2011 شنب
الأكاديميات هي الأماكن المقدسة لوضع النظرية الصحيحة للحياة وإنشاء الذهنية الديمقراطية الحرة ونشرها بين المجتمع
لاشر رودي
لدى الحديث عن المجتمعية، يتولد مباشرة في أذهاننا سؤال من أين نبدأ بإنشائها؟ كون المجتمعية استمرارية لتقاليد علوم الثقافات في الشرق الأوسط، ويعبر تغيير البراديغما التي يمكننا تعريفها بـ "الثورة الذهنية" عن جوهر المجتمعية الجديدة، حيث وضع القائد "آبو" أسس المهام المستوجب القيام بها لبناء صرح مجتمع سياسي أخلاقي وفق ثلاث عناوين وهي المهام الثقافية والأخلاقية والسياسية. المهمة الثقافية هي خلق ثورة ذهنية وتطلق على مؤسساتها اسم " أكاديميات العلوم الاجتماعية"، والمهام الأخلاقية والسياسية هي من أعمال المعرفة، وتطبق عن طريق هذه المؤسسات والأكاديميات، وانطلاقا من ذلك فالأكاديميات هي المراكز الآساسية لانشاء مجتمع جديد.وضعت الحضارة الاوربية ومفهومها العلماني المركزي (العلموية) الانسانية وجها لوجه امام خطر الفناء والزوال، وحولت العلم الى ألد أعداء الحقيقة الاجتماعية، بعدما اغتصبت ميراث العلوم والمعارف الانسانية وتنقيتها في مصفاة علومها الوضعية "الإيجابية"، ولم تحول أية حضارة دولتية على مر التاريخ الانساني الطويل العلم إلى وسيلة إبادة المجتمع مثلما فعلته الحضارة الاوروبية، لذا لدى البحث في علمانية أوربا لابد من سبر أغوار التاريخ والتعرف على دور المؤسسات الذهنية -على وجه الخصوص- في تكوين الحضارات التاريخية، ولو بدأنا البحث انطلاقا من توضيحات القائد آبو: "الحقائق الاجتماعية حقائق منشأة"، سنرى بأن هذا الإنشاء والتكوين نتاج ذهني ويخص كافة الحقائق الاجتماعية وكل حقيقة اجتماعية مبنية وفق ذهنيتها، وبناء عليه تتلاءم الحضارة الدولتية السلطوية وخصائها مع بنيتها الذهنية، وتنطبق الحقيقة على المجتمع الطبيعي أيضاً، فالذهنية المولِّدة لحقيقة المجتمع الطبيعي متلائمة مع كافة خصائصها وفي المقدمة مع نسيجها الأخلاقي والسياسي.
التحكم الذهني في تاريخ الحضارة
تحول التحكم الذهني الى احتكار وبتوسعه شمل استعباد الانسانية استناد الى اغتصاب ميراث المعارف والعلوم الانسانية، فتقول هذه الذهنية في اليوم الراهن : "انكم أسرى لدي ومضطرين للخنوع لي ولا خيار آخر أمامكم سواي لأنني الحقيقة الوحيدة".
تفرض الحضارة السلطوية وخاصة الحداثة الرأسمالية نفسها كحقيقة وحيدة على الانسانية، وبذلك تستنكر وجود حقيقة الحضارة الديمقراطية الحية، ويحيا المجتمع الأخلاقي والسياسي في ظل القمع وهيمنة الحداثة الرأسمالة حالة التدهور والتراجع، ولن لا يعني عدم وجوده، فوجود المجتمع الأخلاقي السياسي عامل أساسي في حفاظ الانسان على وجوده، وأما الجانب الآخر هو سير تاريخ الانسانية على شكل مجتمع أخلاقي وسياسي بنسبة 99%، وبناء عليه يعتبر تعريف الحداثة الرأسمالية لنفسها على أنها الحقيقة الوحيدة أكبر كذبة، والسؤال الهام هنا هو كيف يمكن لها أن تقنع الانسانية بكذبتها؟، قامت مؤسسات ذهنية الحضارة الدولتية السلطوية بدور مؤثر في هذا المضمار منذ نشوئها وصولا إلى حاضرنا، دون شك لم تولد هذه الذهنية من نقطة الصفر، فالرجل سرق معارف المرأة واعتدى على قيمها، ومن ثم احتكر علومها التي شكلت المنبع الاساسي لهذه الذهنية واستثمرها لخدمة مصالحه.
في السابق خدمت علوم ومعارف المرأة المجتمع الطبيعي ومصالح المجتمع الأخلاقي والسياسي فقط، والعلم ملك لأفراد المجتمع أجمع ولم يستغل لأهداف مغايرة. وباتت الزيكورات مركز العلوم الى جانب مهامها الأخرى في التاريخ الحضاري، وتأسست العلوم الاحتكارية على دعائم قيم المرأة الأم في المجتمع الطبيعي، حيث درّب الرجل القوي الماكر فئة الشباب الموجودين من حوله لوضع أسس ذهنيته، وابتدأ بفعاليات ذهنيته في انشاء نظام أسرته، ولمعرفة الرجل الماكر القوي بعدم تمكنه من بناء نظامه البديل لنظام المرأة دون الاعتماد على فعالياته الذهنية، لذا اهتم بالاعمال التدريبية والتعليمية بكثرة.
حازت أعمال الرجل الماكر على مكانة نوعية على مر مراحل التدول، واكتسبت هوية مؤسساتية مع تطور التحول الدولتي لتكون إحدى أهم أعمال الزيكورات، وتحققت آنذاك الكثير من التطورات الثقافية ومن أهمها الكتابة، الرياضيات، الأدبيات، الطب، الفلك والتولوجيا. واستخدمت كل هذه التطورات كبذرة لإنشاء حقيقة اجتماعية جديدة، ولابد من الاشارة بأن هذه التطورات لم تنفع القسم الأعظم من المجتمع، أي لم تكن على صلة بالمجتمع لا من بعيد ولا من قريب، بل تطورت لصالح الفئة الدولتية المنفصلة عن المجتمع، وانتفعت منها الطبقة العليا من المجتمع وان صح التعبير أنشأت موظفي الدولة، مثلا بالرغم من تطور الكتابة ولكن قلة قليلة كانوا يتقنونها، وبرز العلم بمفهوم وشكل الميثولوجيا في تلك المرحلة وشكلت المكونات الاساسية لذهنية النظام الجديد.
انتفعت فئة معينة من العلوم السومرية ليتمكنوا من تأمين مشروعية نظامها، وخاصة القسم المختص بالزراعة على الأغلب، وفي النهاية يعود الانتاج الزراعي بالنفع عليهم، وهنا نستطيع أن نرى بكل سهولة حقيقة الرهبان السومريين في ايديولوجيتهم التي بينوها كخلق من الله، وزرع الرهبان السومريين -الخالقين للاله الجديد- الايمان بنظامهم العبودي في نفوس المجتمعين حول مدينة سومر، وارتبط المجتمع طواعية بالايديولوجية الحاكمة المتمثلة بالنظام العبودي، ومن بعدها استمرت العبودية بأساليب العنف والحكم العسكري، فأراد القائد العسكري جلجامش التعاون مع أنكيدوا المرتزق لتحويل الجماعات الكردية القاطبة في الشمال على شكل مجتمع طبيعي الى جزء من النظام العبودي، ويرمز همبابا لهذه الجماعات.
جرى تنظيم الدين والثقافة والأدبيات في عهد السومريين على شكل أكاديميات في "أدوبا" الواقعة في مدينة "نيبورا" التي كانت في مستوى مدينة مركزية ايديولوجية، ولعبت تلك الاكاديميات دور الجامعات في حاضرنا، وشكلت هذه المؤسسات المراكز الأساسية لتطوير الفكر الأم للملوك السومريين، وتبوأت فيها المعطيات الميثيولوجية أعلى مستوياتها، وتحققت أسطورة "أنوما أليش" والصراع بين الاله- الرجل "ماردوك" والآلهة- الأم "تيامات" وتلقي تيامات الضربة القاضية واخراجها من بانتون حسب مشيئة الآلهة آنذاك، يدل على انهيار نظام "المرأة الأم" تماما وظهور الرجل الماكر على خشبة مسرح التاريخ كقوة وحيدة في العالم.
بالرغم من حدوث تطورات فلسفية في الحضارة الرومانية الاغريقية، لكنها انطوت على آثار الميثولوجيا والتيولوجيا بشكل كبير، ويورد في الميثيولوجيا اليونانية وفي الكثير من الأماكن الأخرى بأن المعرفة خاصة بالمرأة، ومتيس هي آلهة المعرفة، فمثلما سرق أنكيدو ماءات "اينانا" أراد الإله الحامي لحكم الرجل "زيوس" اغتصاب المعرفة، ولم تتمكّن منه "متيس" بالرغم من جهودها وكفاحها وحولت نفسها الى ذباب فبلعها زيوس وهضمها، وبعد استيلائه على العلوم والمعرفة وُلِدت أثينا من رأس زيوس، ويمكننا القول بأن اغتصاب معارف المرأة وولادة أثينا من جبين زيوس لتمثل حكم الرجل هو نتاج حكم الرجل، وتنم المواقف الواردة في الميثولوجيا اليونانية عن حماية النظام الرجولي ومناهضة نظام "المرأة الأم" ونهاية عصرها، وسردنا لهذا المثال هو في سبيل الاستدلال على القوة الخارقة للذهنية.
تقدمت الأكاديميات بجهود الفلاسفة في عهد الحضارة الرومانية الأغريقية بشكل كبير، وتشكلت فيها كافة المكونات الايديولوجية للمرحلة الحضارية الجديدة، وتلقى الكثير من هؤلاء الفلاسفة تدريبهم في بابل ومصر، وتضمنت أعمالهم على تحويل كافة المعطيات المستوردة من الشرق الأوسط إلى طرح جديد، والنتيجة التي خلقتها هذه الايديولوجيا هي إيصال العبودية الكلاسيكية الى الذروة في روما، ورغم هذا طور الكثير من الفلاسفة تعاليمهم باستقلالية عن النظام الحاكم.
الأديان التوحيدية ذات طابعين، الطابع الأول نضالها الاجتماعي المستقبلي هو نتاج الحضارة الديمقراطية وتقاليدها الثقافية في بداية ظهورها، الطابع الآخر لعبت الديانات التوحيدية وتعاليمها الدينية والأخلاقية دوراً مشابهاً في نضوج النظام العبودي، فبعد تحولها الى سلطة والتدول مارست دورا معاكسا لأسباب ظهورها، وتعتبر دُور أماكن العبادة للأديان التوحيدية من إحدى أهم المراكز الفعالة للأنظمة السلطوية الحاكمة التي جددت بناءها.
يستمد نظام الحداثة الرأسمالية قوته من الخدمات التي تقدمها العلمانية الاوروبية القائمة على السلطة والاحتكار الرأسمالي ويعتمد عليها، ووصل المجتمع في ظله الى أوج مراحل التشتت والتجزئة، وبالعلمانية وصلت الفروقات بين الذات والموضوع الى الذروة، وتنازل كل شيء إلى الظواهر وازدادت التجزئة العلمية بسبب مفاهيم الفلسفة الوضعية، أما آثارها فبدت على شكل تقسيم وتجزئة المجتمع، وبيّن القائد "آبو" خطورة هذا الوضع من خلال التحليل التالي "رجال المعرفة (الذين تحت امرة النظام وبدون نقد) قصابي الحقيقة، يقطعون الحقيقة من هنا وهناك مثل القصاب الذي يفرم لحم الحيوان، هؤلاء يطبقون ذلك بحق الطبيعة والمجتمع بأكمله، في البداية قالوا "طريقة التجربة والمراقبة" ووضعوا تعريف لها، ومن أكلوها وأنهوها بمرحلة الممارسة والبراديغما، ولا يوجد تعريف آخر خارج هذا التعريف لتوضيح انفجار القنبلة الذرية ودمار البيئة دماراً شاملاً".
خلقت العلمانية أكبر نظام وحشي مثل الحداثة الرأسمالية في التاريخ، وافتقد الانسان والمجتمع والطبيعة لقيمتهم في ظله، أي نظام بلا قيم ومديون لعلمانيته، وتوغلت العبودية في كافة أرجاء المعمورة ونخرت مسامات المجتمع عبر الحداثة الرأسمالية، وكل ما تم ذكره على صلة وثيقة بدور المراكز الايديولوجية، ابتداء من الدراسة في المرحلة الابتدائية وصولا إلى الجامعة، ومن المؤسسات الدينية إلى المؤسسات الاعلامية، وتمخض عن العلمانية الاوربية ابتعاد الوجود الانساني عن الكدح والمجتمع والطبيعة والانسان والتاريخ، وبرزت الفتشية "الشبقية" كدين جديد على الساحة، وخلق رجال العلم المنقطعين عن المجتمع والأخلاق أنواعا مغايرة للعبادات كي يوصلوا الانسان إلى مستوى حيواني.
تستهدف كافة الفعاليات العلمانية الى كيفية تحويل جميع القيم المادية والمعنوية الموجود في الطبيعة والانسان والمجتمع إلى سلعة تجارية والتلاعب بها، ولا تعرف الحداثة الرأسمالية وعلمانيتها أية حدود في هذا الموضوع، حيث تواجه الانسانية أكبر وأقذر نظام احتكاري في التاريخ، فما وصلت إليه العلمانية الاوروبية هو بقاء الانسان والمجتمع والطبيعة وجها لوجه مع الفناء.
ثقافة المعرفة في ذهنية المجتمع الأخلاقي والسياسي
بيّن القائد "آبو" علاقة الحضارة الدولتية السلطوية وكيفية تغذيتها على حساب الحضارة الديمقراطية بهذا الشكل "إن نظام المدارس والأكاديميات والجامعات التي نظرت بمنظار الشك إلى الحضارة الديمقراطية لم تتراجع عن تشكيل بديلها على مر التاريخ، بدءا من ظهور نظام الأنبياء إلى مدارس الفلاسفة، ومن التصوف إلى العلوم الطبيعية وفي أماكن عديدة من أماكن العبادات التي لا تعرف الحدود كالطرائق، المدارس، المذاهب، الكنائس، الجوامع، الأديرة والمعابد. يتبين بأن الحضارة ليست وحدوية بل ثنائية برزت في كافة ساحات المجتمع الطبيعي، فالقضية هنا تطوير خيار الحضارة الديمقراطية والحياة الحرة من دون اختناق القاعدة بالوحدوية الرسمية وايجاد الحل من خلال الطرف الطبيعي للثنائية"، وبهذا أثبت القائد "آبو" بأن ذهنية الحضارة السلطوية ارتكزت على الحضارة الديمقراطية وسارت اعتمادا عليها.
تشكل ذهنية المجتمع الأخلاقي السياسي وحدة كاملة خالية من التجزؤ ولا فرق بين الذات والموضوع فيها، بإمكان كافة أفراد المجتمع استخدام العلم والمعرفة، وقائمة على خدمة مصالح المجتمع. واستمرت ذهنية المجتمع الطبيعي بالتضامن مع الطبيعة الحية عبر الملايين من السنين. حيث خلقت قيم ذهنية معرفية عظيمة في العهد النيولوتي، ووصلت هذه المعرفة إلى قمتها في مرحلة "تل خلف" على وجه الخصوص، واكتشف الانسان كافة المعطيات الذهنية والتكنيكية ليحافظ على حياته وحياة المجتمع في مواجهة كافة المصاعب التي واجهها. فثقافة الآلهة هي المثال الحي لأرقى ما خلقته هذه الذهنية، وخاضت نضالا عظيما ضد سرقة الرجل الماكر القوي للمعارف والعلوم، ويرمز صراع اينانا وأنكي إلى ذلك، وتعبر ماءات المرأة الأم المائة والأربعة إلى نتاج قيم المعرفة الأخلاقية والثقافية.
لدى تحول الذهنية السلطوية إلى دولة، بقي المجتمع الطبيعي خارج هذا النظام واستطاع تأمين حياته، أما الذين بقوا في ظل سيطرة النظام الحاكم والجماعات التي حافظت على خصوصيات المجتمع الأخلاقي السياسي، كانوا في صراع دائمي معه، وتطور النضال على طريقتين، الأولى: نقل الذهنية بطرق طبيعية من جيل إلى آخر، والثاني عن طريق بناء مؤسسات بديلة لمؤسسات ذهنية النظام.
انطلاقا من كل ذلك، حازت المؤسسات الذهنية الاجتماعية على أهمية بالغة في تاريخ الانسانية، مثل مؤسسة النبوة، أكاديميات الفلاسفة، مدارس العلوم التصوفية والطبيعة، دور العبادة، الطرائق، المذاهب، الكنائس، الأديرة، والمعابد.
تتمتع ذهنية وحدوية الله بأهمية بالغة في مواجهة الآلهة الميثيولوجية المتشكلة بتقاليد السومريين، حيث كانت بمثابة ثورة ذهنية ساعدت في تليين النظام العبودي المتصلب المستند إلى الملوك الآلهة، ولها دور هام في حماية الأخلاق الاجتماعية، ولكن ينبغي أن نشير بأنها لعبت دورا عكسيا بسبب الذهنية المنفتحة للتحول السلطوي، حيث تفاقمت المشاكل والأزمات، خاصة عقب مرحلة التدول.
فمعلمي الأخلاق مثل "زاردشت، كونفوشيوس، وبوذا" أحدثوا ثورة ذهنية عظيمة وخلفوا آثارا عظيمة في تكوين أخلاق الانسان بحيث لا يمكن إزالتها من ذاكرته، ومازالت محافظة على حقيقتها كجوهر الحياة الاجتماعية. هؤلاء المعلمين ارتكزوا على دعائم جوهر الانسان، وأرادوا تجاوز النظام العبودي الحاكم، ورؤوا في النظام الأخلاقي الاجتماعي نظام اجتماعي عادل ومتساوي، وظهروا كباحثي الحقيقة واستمرارية تقاليد المقاومة في مواجهة النظام الاقطاعي العبودي الحاكم في الشرق الأوسط.
من المعروف تماما بأن ذهنية النظام السلطوي معجونة بالأكاذيب ولايمكن أن تكون الحقيقة، ولذا يمكن البحث عن الحقيقة في داخل الانسان والأخلاق الاجتماعية، وتعتبر جغرافية الشرق الأوسط مكان البحث عن الحقيقة، وأثبت ذلك على مر تاريخ الحضارات، ابتداءا من ماني إلى الحلاج منصور، ومن يونس إلى النسيمي، ومن بابك إلى السحر الوردي، فأجمعهم قدموا تضحيات جسيمة في سبيل الحقيقة، وأصبحوا نبراسا واملا لتحرير المعابد والأكاديميات والمدارس من نير سلطة النظام الدولتي. كل هذا هو انعكاس ذهنية المجتمع الأخلاقي السياسي وتقاليدها في المقاومة، وبالرغم من ممارسات الملوك والسلاطنة والباشوات القمعية والانكارية، واصلت هذه التعاليم مقاوماتها -دون انقطاع- إلى يومنا الراهن، وتعرضت هذه المقاومات للإنكار والإمحاء من قبل الايديولوجيات الرسمية باستمرار، وأعلن ممثلو الايديولوجية الرسمية عن ممثلي هذه المقاومات بالمرتدين عن الدين والمنحرفين والزنادقة والشياطين والكفار وأمرت بقتلهم، لكن أحيوا مجددا من رمادهم في اللحظات التاريخية في أمكانهم، وجرى نقل تقاليد ثقافة المقاومة الى أوربا، فكان كل من الهراطقة والعجوزات الساحرات معبئين بذهنية المجتمع الطبيعي، لذا تم قتل الآلاف منهم على يد الكنيسة ممثلة الايديولوجية الرسمية وتعرضوا لأقسى العقوبات على أيدي رجال العلم والدين، لعدم خنوع كل من انكيزسيون برونو، اراسموس، غاليلو وتوماس مور لذهنية النظام السلطوي.
استهدف كل الباحثين على حماية وجود المجتمع الأخلاقي السياسي، وتأسيس مجتمع كومينالي قائم على جوهر ذهينتهم في المساواة والعدالة والتعاون المتمثلة في جوهر االانسان، باتوا أمل نور للانسانية في ظلمات القرون الوسطى، واستمرت البحوثات الثقافية كبديل للحداثة الرأسمالية، وتبوأت الماركسية مركز البديل الهام، ووصلت اصرارها الى سوية تسمية نفسها بعلم العلوم، وأصبحت أملاً عظيما للمضطهدين. وتصاعدت ثورات وكفاحات كبيرة على ضوء الايديولوجية الماركسية، وتحققت آمال كبيرة في الحرية، وفتحت الطريق أمام تطوير الوعي الحر بين صفوف المجتمعات المضطهدة، لكنها لم تنجو من الهزيمة في ذات الاشتراكية المشيدة، ولاقت الديمقراطية الاجتماعية والحركات التحررية الوطنية النامية في ظل الماركسية نفس المصير. لم تكن هناك أية مشكلة في المصطلحات الايديولوجية كالاشتراكية، المساواة، العدالة، والحرية، لكن القضية تكمن في عدم ايجاد البراديغما الجديدة القادرة على تكوينها، لذا لم تنجو من الوقوع في جبهة معادية لذاتها، ولم تتجاوز أفق براديغما العلمانية الوضعية الاوروبية، وأضحت القوى اليسارية الاضافية للحداثة الرأسمالية.
القراءة الماركسية الخاطئة للتطور الكوني وتقييمه على كونه يسير وفق خط مستقيم والأخطاء التي ظهرت في بنية الاقتصاد والصناعة والدولة والسلطة وفي مواضيع أخرى، ساعدت في اطالة عمر النظام الحضاري ولم تتجاوزه.
تحتاج العلوم الاجتماعية بمستواها الراهن إلى إعادة البناء مجددا، دون الانقطاع عن ثقافتها التاريخية، فبقدر نقد المفهوم العلماني ومؤسساته المتشكلة من قبل النظام السلطوي على مر تاريخ الحضارات، فمن الأهمية الكشف عن قوالب ذهنية الحضارة الديمقراطية والديمقراطية الايكولوجية والجنسوية (التحرر الجنسوي) كتقاليد تاريخية أيضا، وعلى هذا الأساس يحمل السؤال كيف ينبغي أن تكون العلوم الاجتماعية ومؤسساتها؟ على أهمية حياتية.
إعادة بناء العلوم الاجتماعية
جوهر العلم جوهر اجتماعي وبالتالي فهو علم اجتماعي، لذا لا يمكننا تعريف أي علم بعلم حقيقي من دون الإعتماد على العلوم الاجتماعية، ومن أولى مهامنا وضع العلوم الاجتماعية في مكانها المناسب، لتتجاوز التشتت والتجزؤ النابعين من الظاهرة الوضعية في العلوم الاجتماعية، وتستحوذ أهمية إعادة تنظيمها على الدرجة الأولى، بحيث تأخذ كافة فروعات العلوم الاجتماعية وفي البادئ التاريخ، الاجتماع، علم السياسة، علم النفس، والاقتصاد ضمن وحدة متكاملة، أي ثورة ثقافية جديدة.
تقييم المجتمع الأخلاقي السياسي كأحد العوامل المتممة لهذه الثورة الثقافية تعني إضافة مساعي هامة للتطورات الاجتماعية على ضوء هذه الحقيقة، فالمهام الأساسية للعلوم الاجتماعية هي إبراز حقيقة المجتمع الأخلاقي السياسي المواجه لخطر الفناء والزوال على يد الحداثة الرأسمالية وايصالها الى نموذج اجتماعي أساسي، و يمكن للعلوم السياسية العمل وفق حقيقتها.
ينبغي أن تتحلى العلوم الاجتماعية الجديدة بخاصية تجاوز الذهنية المعتمدة على مفهوم الرجل الماكر القوي الذي أعلن نفسه الجوهر، وشيّأ (جعله كشيء) من المرأة والمجتمع، وأوصل الفصل ما بين الذات والموضوع إلى ذروته بالعقل الوضعي، وبالتالي هذا يعني تجاوز كافة الفروقات التي خلقت في المجتمع والوصول إلى نموذج فكري سليم. كذلك تقييم الحداثة العالمية وما بعد الحداثة على أنها انحراف تحمل أهمية بالغة. بما أن مفهومنا الجديد للعلوم الاجتماعية تتمحور حول المجتمع الأخلاقي السياسي، فإن إظهار الحقيقة التاريخية، الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، النفسية والأخلاقية للمرأة بكافة جوانبها من أهم وظائف العلوم الاجتماعية. انطلاقا من ذلك فإن المهمة الأساسية هو إظهار التاريخ غير المدون لتاريخ المرأة والدور الذي قامت به في تاريخ تطور المجتمع، كذلك تحليل عبودية المرأة ضمن الحقائق التاريخية بشكل شامل وتجاوز ذهنية الرجل المنحرفة من أهم المواضيع الأساسية في يومنا الراهن، فلا يمكن تشييد ذهنية جديدة من دون اعتبار المرأة حقيقة اجتماعية.
توازيا مع ذلك سيشكل مفهوم العلوم الاجتماعية الجديدة توجيهات أساسية لتجاوز المشاكل الأيكولوجية أيضاً، فالرأسمالية الصناعية الوحشية هي مصدر المشاكل الأيكولوجية، حيث أوصلت الطبيعة إلى خطورة الفناء بمفهوم الربح الأعظم، ولتجاوزها هناك حاجة ماسة إلى مفهوم الصناعة الأيكولوجية، ويمكن تأسيس ذلك ضمن اطار توجيهات العلوم الطبيعية ومحور المجتمع الأخلاقي السياسي بإدارة العلوم الاجتماعية، ولن تتجاوز اكتشافات العلوم الطبيعية من تجاوز مصالح البرجوازية في حال انعدام آلية المراقبة، وسيؤدي بدوره الى إبادة المجتمع والطبيعة.
هدفت الحداثة الرأسمالية إلى تشتيت المجتمع والانحلال الخلقي لأنها تعلم أن الأخلاق المتمثلة في الوعي التحرري للمجتمع هو بمثابة اللحمة الأساسية لوحدته، وبناء عليه من أهم توجيهات العلوم الاجتماعية هي تطوير الأخلاق الاجتماعية وتكوين طليعتها والرفع من سوية الوعي السياسي الاجتماعي، ويتعلق رفع مستوى الوعي السياسي بآلية التدريب والتعليم، ولن يتحقق عبر المؤسسات التعليمية للأنظمة الحاكمة، فكل المؤسسات التعليمية بحد ذاتها آداة لتحويل المجتمع إلى مجتمع لا أخلاقي ولا سياسي، وتقوم كافة المؤسسات التعليمية والتربوية للنظام والجامعات في المقدمة دورا كهذا، وتنطوي بناء الأكاديميات البانية والمؤسسة للنظام الجديدة على أهمية بالغة.
في الخلاصة، فكما اتجهت كافة التطورات الاجتماعية على مسارين في التاريخ، كذلك الأمر تطورت الذهنية الاجتماعية على منحى طريقين. فمن جانب تطورت سلطة العلم لخدمة النظام الدولتي السلطوي، ومن جانب آخر تطور علم ذهنية المجتمع الأخلاقي السياسي، ومن ناحية عظّمت المؤسسات التعليمية من شأن السلطة، ومن ناحية أخرى ساعدت المؤسسات التعليمية على حياة المجتمع وعيشه بعيدا عن النظام السلطوي.
انتشر حكم القوى الحضارية الايديولوجية، وألحقت أضرارا جسيمة بالمجتمعية، وإن لم تجد الأخيرة مخرجا وبديلا لها ستتجه نحو الفناء، لذا تحظى الأكاديميات –مؤسسات الذهنية الاجتماعية الجديدة- على الأهمية.
العلم الاجتماعي المتمحور حول المجتمع الأخلاقي السياسي هو بمثابة مضاد حيوي للتسمم المعلوماتي المتكون على مر الأزمان، فالاكاديميات تحظى بميراث ثقافي تاريخي غني، وهي الكفيلة بإحياء وتجديد هذا الميراث وتبيان حقيقة الذهنية المنحرفة للقوى الحضارية، ولا تسمح بتزييف المعلومات وتضليل حقيقتها، هناك تقاليد تاريخية واسعة النطاق وغائرة، بدءاً من معارف المرأة والتعاليم الزرادشتية والمدارس الفلسفية التي ظفرت في البقاء بعيدا عن النظام ومؤسساته كحال المعابد والكنائس، وصولا إلى الحلاج منصور وسحر الوردي وبرونو واراسموس والفلاسفة الاشتراكيين الذين ناهضوا الحداثة في القرن العشرين.
توحيد أفكار وفلسفات هؤلاء على أسس الذهنية العلمية الاجتماعية الجديدة هي أكبر ثورة ثقافية للحضارة الديمقراطية، وستحقق الأكاديميات هذه الثورة، لو تم التدقيق في قوة الذهنية ودورها البارز في بناء المجتمع والحياة، ستبدو لنا دور الأكاديميات تلقائياً. الأكاديميات هي الأماكن المقدسة لوضع النظرية الصحيحة للحياة وإنشاء الذهنية ونشرها بين المجتمع، إنها تجد طرق ونهج حماية نفسها حيال انكسارات ذهنية النظام الدولتي السلطوي، وتزرع الثقة بالذات والاعتماد عليها دون الحاجة الى الدولة. علينا أن نعلم بأنه لا يكفي مناهضة النظام، ولا يكفي التغلب على العدو ماديا وجسديا واحتلال مكانه، فالتاريخ مليئ بآلاف الأمثلة للذين انتصروا في حروبهم ضد عدوهم، لكنهم لم ينجوا من التشبه به وحتى تقويته، ويمكننا تعداد الأمثلة من تقاليد النبوة وصولا الى براديغما الاشتراكية المشيدة، فالمهم هنا هو التغلب على ذهنية العدو، لأن المجتمع يبنى صرحه بقوة الذهنية، والذين لم يتخلصوا من ذهنية عدوهم لم ينجوا من مصير الفشل، وحينئذ لابد من التحرر من ذهنية النظام الدولتي السلطوي المستمر بقوة تقاليده الى يومنا من اجل القدرة على تحرير الشعوب، وببناء الاكاديميات وتفعيلها في كافة الجوانب يمكن نشر هذه الذهنية والتحرر من براثن العدو، وعدم وجود الأكاديميات أو عدم فعاليتها يعني الإصرار في العبودية، وهي مهمة لا تقبل التأخير أو التأجيل فالحياة البادية للعيان مختنقة في مستنقع العبودية.
سيلبي نظام الاكاديميات بدءا من أصغر الأماكن وصولا الى الأكاديميات العالمية كافة الاحتياجات الاجتماعية ضد المؤسسات العلمانية للقوى الحضارية المترسخة، وأشار القائد "آبو" بأن نجاح الثورة الثقافية مرتبط بإنشاء هذه المؤسسات، كما بيّن بأن مشروع "كونفيدرالية الثقافة والأكاديميات العالمية" سيلبي الاحتياجات اللازمة، بالطبع يجب إنشاء هذه المؤسسات مستقلا عن كافة مؤسسات القوى الحضارية الدولتية السلطوية.
تحتاج كافة الشعوب وحتى التي تظن بأن مشاكلها محلولة ضمن النظام الهراركي (الهرمي) الدولتي وشعوب الشرق الأوسط الذي يعاني من قضايا جدية الى الحرية والنفاذ من وضعها المأساوي، واعتقاد أي امرؤ بأنه يعيش حرا وحلّ جميع مشاكله وقضاياه ما هي الا غفلة وخداع الذات، فالحرية والابتعاد عن المفاهيم الدولتية تتحقق بذهنية بعيدة عن نطاق الدولة ومتمحورة حول المجتمع الأخلاقي السياسي الذي يمثل جوهر المجتمع الطبيعي، ولن تجد هذه الذهنية أماكنها الا في هذه الأكاديميات.
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42