دور الطريقة النقشبندية في السياسة الشرق الأوسطية
21 ژوئی 2011 پنج ش
تحتل كل من العشيرة والطرائق الدينية مكانة هامة في حياة شعوب الشرق الأوسطية، وان المكانة التي تحتلهما كلاً من هاتين الظاهرتين واضح للعيان في مكونات البنية الاجتماعية للمنطقة.
اكادمية عبدالله اوجلان للعلوم الاجتماعية
العشيرة والطريقة ظاهرتين تشبث بهما شعوب المنطقة منذ قرون طويلة، حيث من غير الممكن لأية قوة سياسية كانت أن تحقق النجاح من دون ان تكون على صلة مع كلا الظاهرتين، وليس بمستطاعتها تسيير دفة السياسة اليومية والاستراتيجية من دونهما أو دون أخذهما بعين الاعتبار. لذلك يتطلب من المعنيين بهاتين الظاهرتين التدقيق والتمحيص فيهما وتفكيك بنيتهما بالتحليل الواقعي والموضوعي حتى يتمكن من الوصول في الشرق الأوسط إلى النجاح سواء من الناحية السياسية، العسكرية، الاقتصادية أو الديبلوماسية.و لو تمحصنا قليلا في ماهية هاتين الظاهرتين سنرى بأن جميع دول المنطقة يتعمدون الاعتماد عليهما سواء في سياساتهم الداخلية الهادفة إلى فرض الهيمنة على المجتمع الرازح تحت سيطرتهم أو في فرض متطلباتهم على الدول المجاورة لهم.
سنحاول في دراستنا هذه تسليط الضوء على الجانب السياسي للطريقة النقشبندية ومراحل تسيّسها ودروها السياسي إلى يومنا الحالي في سياسة منطقة الشرق الاوسط.
النقشبندية في كردستان
إن دراسة تاريخ كردستان في أوائل القرن التاسع عشر، تبين لنا سمات أساسية تَميّزَ بها الوضع السياسي العام آنذاك، يمكن تحديدها في النقاط التالية:
1ـ النزاع العثماني ـ الصفوي، وإنعكاساته على الكرد.
2ـ تناحر الإمارات الكردية فيما بينها.
3ـ الصراع داخل العائلات الكردية الحاكمة.
4ـ الصراع على السلطة بين الحكام الكرد، وسكان الإمارات.
أختلف المؤرخون حول تاريخ ميلاد ضياء الدين خالد حسين، مؤسس الطريقة النقشبندية في كردستان، وبلدان إسلامية أخرى، والمعروف بـ مولانا خالد النقشبندي، ولكنهم حصروا تقديراتهم في الفترة 1776ـ 1779. ويبدو أن ما سجّله إبن أخيه الشيخ محمد أسعد صاحب زاده حول هذا الموضوع 19/كانون الثاني 1779، هو الأقرب إلى الإعتقاد. فتح ضياء الدين عينيه على الحياة في قرية "قه ره داغ" الواقعة على بعد حوالي 30 كيلومتراً من جنوب السليمانية، والتي إعتبرها "كامبانيل" واحدة من أكبر ضواحي الإمارة، وكانت القرية تعتمد على ثلاث عيون من الماء، يسيطر الحاكم الباباني للمنطقة على إثنتين منها، بينما يتزود سكان القرية جميعاً من عين واحدة.
كان لأبيه شيء من الثقافة الدينية، أفادته في سنوات تعليمه الأولى، ثم توجه إلى المدارس الدينية في المدينة. هذا كل ما نعرفه عن صِبا خالد، ولا نعرف عن عائلته المزيدَ، غير أن الواضحَ أنها لم تكن تنتمي إلى أرستقراطية عشيرتها "الجاف". كعادة طلاب العلم آنذاك في كردستان، ترك خالدُ مدينته في الرابع عشر من عمره، مسافراً في طلب العلوم الإسلامية لدى الأساتذة الموجودين في بلاد الكرد. تجول لهذا الغرض كثيراً في إمارة بابان وأردلان. أخذ العلومَ عن عدد من مشاهير عصره. وفي حوالي 1799 أكمل جميع الدروس المفروضة على طالب شهادة المُلاّ. وما نيله لهذه الشهادة في هذا العمر، إلا دليل على قدراته الذهنية التي تراكمت حولها الأساطيرُ والحكاياتُ فيما بعد، بشكل لا يمكن تمييز الواقعي من المصنوع. في العام نفسه، عرض عليه باشا بابان وظيفةً دينية في السليمانية، رفض قبولها، مقدماً أعذاراً تبدو لمعظم المؤرخين غير حقيقية. كان في الواقع يستصغرها، بدليل قبوله وظيفة أرفع شأناً في السنة التالية. هذه الحادثة تبين توتر العلاقة بين المُلاّ خالد، والسلطة السياسية للإمارة. يذكر معظم الذين كتبوا حول سيرة حياته، قصة رواها بنفسه فيما بعد، حدثتْ له مع درويش هندي، تُعبّر عن شوق ورغبة المُلاّ خالد في الوصول إلى شيخ متصوّف. هذه القصة جعلته يفكّر دون إنقطاع في السفر إلى الهند لأخذ طريقة صوفية. الملفت للإنتباه، هو أنه ورغم وجود أحد أكبر شيوخ الطريقة القادرية، الشيخ معروف النودهي، في مدينة السليمانية ذاتها، إلا أننا لم نقرأ شيئاً حول أي لقاء قد حدث بينهما، أو أنه قد خطر على بال الملا فكرة أخذ الطريقة على يد هذا الشيخ. علماً أن الملا خالد قد أخذ، فيما بعد، إجازة الطريقة القادرية من شيخ هندي. هذا المثال، والكثير من الأمثلة الأخرى تبين الموقف السلبي الذي كان الملا خالد يكنّه للسلطة الدينية في العاصمة. سافر الملا خالد إلى الهند في عام 1808، عبْرَ بلاد فارس، حيث أظهر فيها عداءً شديداً للشيعة، فدبّر هؤلاء محاولتين لإغتياله، غير أنه نجا منهما. قضى سنةً كاملة في دهلي بالهند، مع الشيخ عبد الله الدهلوي مرشد الطريقة النقشبندية. نجهل كل ما يتعلق بهذه الفترة من حياته، ولم يتحدث هو عنها إلا قليلاً جداً. عاد إلى كردستان، وهو يحمل من شيخه أمر الدعوة إلى النقشبندية في البلدان العثمانية. بدأ الدعوةَ لأول مرة في مدينة سنندج، حيث كان فيما مضى تلميذاً فيها، فدخل طريقته إستاذه السابق الشيخ محمد قَسيم كردستاني، ومجموعة من أهالي المدينة. وصل السليمانية في عام 1811، فاستقبل إستقبالاً كبيراً. توجّه رأساً إلى بغداد، وظلّ فيها خمسة أشهر، دخل خلالها عددٌ كبيرٌ من علماء المدينة، وسكانها في الطريقة، وكذلك والي بغداد "سعيد باشا"، وخلَفه "داود باشا". عاد في نفس العام إلى السليمانية، ليبدأ نشاطاً مركّزاً في الدعوة إلى الطريقة، إلا أن الظروفَ التي إستجدتْ حولَه، وضعته أمام تجربة، لم يخرجْ منها منتصراً.
انتشار الطريقة
تُعدّ سنوات 1811ـ 1820 من أخصب السنوات التي عاشتها هذه الطريقة في كردستان. فقد حققت شعبيةً أدهشتْ جميع دارسي تاريخ هذه البلاد، وذلك رغم مواجهتها عداءً مستمراً من قِبل القادريين، ومن لُدن أمراء بابان بين الحين والآخر. بعودة مولانا إلى السليمانية في عام 1811 دخل عددٌ كبيرٌ من السكان في طريقته، بالأخص "البازاريون" الذين كانت الظروف الحربية التي تعيشها الإمارة تضرّ بمصالحهم، إذ أن عداءَ هؤلاء للإقطاعيين المتجمعين حول القوتين السياسية، والدينية/الاجتماعية في العاصمة، في ذلك الوقت كان معروفاً، وقد عبّروا عنه في أوائل القرن التاسع عشر بأشكال مختلفة، وفي مناسبات مختلفة، فشكلتِ الطريقةُ الجديدةُ بالنسبة لهم إطاراً يلتقي فيه عددٌ من مصالحهم المشتركة. لذا كان دعمهم لها قوياً في البداية. ثم أخذ الدخول إلى الطريقة طابعاً جماعياً، بعد أن كان يتم بشكل فردي، حيث دخلتها عشيرة "بارزان" وعشائر منطقة "نهري". وهذه الأخيرة كانت حتى ذلك الحين تنتمي إلى الطريقة القادرية. كما انضمّ إليها أيضاً عددٌ من شخصيات "طويلة" و "بياره" (الواقعتين على الحدود العراقية ـ الإيرانية الحالية) ولم يقتصرْ انتشارها على كردستان فقط، بل توزّع خلفاء مولانا في تركيا، سوريا، فلسطين، العراق، داغستان ومناطق أخرى. وبلغ عدد خلفائه الأكراد 34 خليفة، ومن غير الأكراد 33. كان ينتمي إلى مشيخة مولانا خالد في عام 1820، حسب "ريج" 12000 مريداً في البلدان العربية والتركية. ويقدّر "عباس العزاوي" مريديه في جميع البلدان، وفي ذات الوقت بـ 20000، وهذا العدد ضخمٌ، إذا ماقارناه بعدد مريدي الطرق الصوفية الأخرى التي عاشت في البلدان الإسلامية قروناً عديدةً. ويضاف إلى المريدين الذين كانوا يمارسون طقوسَ الذكر والعبادة على الطريقة النقشبندية، أولئك الذين لا يمارسون ذلك، وإنما يظهرون الإنتماء إلى الطريقة وشيخها، ولم يكن عددٌ هؤلاء، كما يبدو قليلاً. بلغ نفوذ مولانا خالد حداً قارنوه بـ عبد القادر الكيلاني، وإعتبروا كلامه حديثاً نبوياً أو ذا مصدرٍ إلهي. وكان الأمراء البابانيون، في فترة محاولاتهم لإستيعابه، يقفون أمامه ليملأوا غليونه وهو جالسٌ. وبلغ الأمر بـ مولانا خالد، أن ينظرَ في المشاكل السياسية التي كانت تحدث بين أفراد العائلة الحاكمة في الإمارة. وقد بنى له الأمير الباباني محمود باشا في عام 1816 جامعاً لايزال معروفاً حتى يومنا هذا باسم "خانقاى مولانا". كان الإسلوبُ التنظيميُّ للطريقة النقشبندية، أقوى وأحسن منها لدى الطريقة القادرية. لم يكن القبول فيها يتم إلا بشروط. والإرتقاء في المراتب الهرمية ما كان يحظي بها كل مريد، وكانتِ الشروطُ الواجب توفرها في المريد للوصول إلى مرتبة الخليفة قاسية، ولا يتم إلا بموافقة مولانا خالد نفسه. وكان المريد المتقدم، يقود المريد المبتدأ، وهؤلاء يقودهم خليفةٌ في الأذكار. والذكر يتم مرتين في الإسبوع. وكان على المريدين ألاّ يعاشروا من يعادي الطريقة، وعليهم أن يعيشوا معاً، إذ كانوا بعيدين عن أهلهم. ولقد نظّم مولانا خالد طريقتَه حسب التوزع العشائري في خارج المدن، فكان لديه خلفاء يمثلونه، ويتحدثون باسمه لدى العشائر، أما في المدن وخارج كردستان، فكان التنظيم مدينياً، لا يعتمد التنظيمَ العشائري أساساً له. وإذا تجاوزَ خليفةٌ الأوامرَ، يصدر في حقه من المركز العام ـ السليمانية ـ تنبيهٌ أو إنذارٌ، يُوزع على جميع النقشبنديين. وإذا تكرر الأمرُ طُرد من الطريقة. وهذا بالضبط ما حدث لخليفة مولانا في القسطنطينية وبلاد ما وراء النهر. وكانت مركزيةُ السلطة واحدةً من أكبر أهداف مولانا، وقد أستطاع أن يحافظَ عليها، حتى موته في عام 1827.
أثر الطريقة النقشبنديّة في تركيا وشمال كردستان:
الروح التصوفية التي يمتاز به مريدي النقشبندية يبعدهم عن رؤية الحقائق، وهي النقطة الأساسية التي تمكن السماسرة من استغلالها والاستفادة منها في مصالحهم. حيث ليس من الصعب كسب تأييد الفئات النقشبندية كونهم يؤيدون ويخدمون كل من يؤيد معتقاداتهم التصوفية، وأن السماسرة والأحزاب السياسية وعدداً كبيراً من الشركات العالمية عملوا على استغلال شيوخ الطريقة كون كسب تأييد الشيخ يعتبر كسب الفئة المؤيدة له بأجمعها، والنقشبندي هو من يرى شيخه بصلة الترابط والوصل بينه وبين الله. وكثيرا من رجال العمل يستغلون شهرة المشايخ، فتنعكس بذلك آراء شيوخ الطريقة على أعمال تجمعات سياسية وتجارية.
المريد النقشبندي يتصور كل شيء بدافع ما بقيت من تأثيرات هذه الطريقة في أعماق ضميره والمتغلبة الدامغة على كل مجال من حياته. ولعل هذه الصورة تعد من أهم أسباب التراجع والتخلف الفكري العصري التي عانت وتعاني منه المنطقة في سبيل إعادة التنظيم الحضاري للمنطقة وسببا لعدم تخلصها من ثقافة "إما العصيان أو الرضوخ والاستسلام".
"نّ القسطاس الّذي يحدّد أبعاد مفهوم الدين، ودوره، ومدى صلاحيته في مُعْتَقَدِ الأتراك، هو التصوّف. ولم يختلف هذا القسطاس عند أكثرهم منذ اعتناقهم للإسلام إلى الوقت الحاضر. لقد طبّعتهم الطرق الصوفيّة على هذه النـزعة منذ القديم؛ فكانت الطريقة المولوية والقادرية والرفاعية والخالدية والبكداشية في مقدّمة الحركات الصوفيّة الّتي تأثّر بها الأتراك. فكان فهمهم للإسلام، وتعاملهم معه من خلال نُظُمِ هذه الطُّرُقِ وآدابها إلى أواخر العهد العثمانيّ. فلمّا قفزتْ الطريقة النقشبنديّة من الهند إلى الديار العثمانيّة وبدأت تنتشر فيها منذ عام 1811م. سادت بعد ذلك آثارُ هذه الطريقة على روح الناس وانعكستْ إلهاماتُها على فهمهم وسلوكهم وتعاملهم بصورة واضحة.
إنّ أهمَّ آثار الطريقة النقشبنديّة على عقلية المجتمع وسلوكه، وأشدَّها خطرًا على الإسلام في تركيا ينحصر في نزعة غريبة ابتلى بها أكثر الناس في هذا البلد. وأصبحت مشكلةً أخلاقيةً واجتماعيةً عويصةً جدًّا، قد يؤدّي إلى تضليلٍ شاملٍ، وإلى إفساد بقيةِ القِيَمِ، وإثارةِ فتنٍ تتعاقبها تطوّراتٌ لا إمكان لتحديدها وتقدير نطاقها ونتائجها في هذه الآونة. ألا وهي نزعةٌ تتمثّلُ في اختلاق شخصية موهومة تُنْصَبُ كأسطورة، يبدأ الناس بالطواف حولها لما يرسخ في ذهنهم أنّها محط عظمةٍ وإجلال، وينتشر ذكرها في العالمين."
صورة الصراع بين شيوخ الطريقة النقشبندية والمنافسة على توسيع نطاق الشهرة والإكثار من المريدين والبطانة والأنصار، هذه الصورة جاءت تارة بمصالح كبيرة لبعضهم وتارة أخرى بمصائب كبيرة على بعضهم الاخر كالصراع بين الأسرة الارواسية والكفروية. أما تلاميذ الشيوخ فيعملون على نشر الدعاية والكتابة لصالح شيوخهم وإطلاق التلفيق لكسب المؤيدين وتشويش سمعة الشيوخ الآخرين، هذه الغطرسة جعلتهم يتسابقون بأساليب فرعونية تنعكس نتائجها السلبية على المجتمع، فتسري في الناس روح التنافس على استغلال الضمائر، وتسخير بعضهم البعض لتحقيق الآمال والمصالح الشخصية؛ فيتطوّرُ النـزاع بينهم ويتصاعد، وأحيانًا يتحوّل إلى فتن يذهب ضحيتها من الأموال والأرواح ما لا يحصى. كما حدثت أثناء ثورة الشيخ سعيد البالوي عام 1924م."
فأسفرتْ هذه الحركةُ عن إزهاق ستةٍ وثلاثين ألفًا من الأرواح (تقريبًا) من سكان المنطقة بما فيهم الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى العازلين عن السلاح تمامًا. بالإضافة إلى إحراق عشرات آلافٍ من الكتب!
لم يختصر نتائج الطريقة النقشبندية في سلبياتها على الحياة الاجتماعية وحسب، إنما شملت الناحية الثقافية والسياسية كدخولهم في موقع تستخدمها السلطات ضد التيارات السياسية العلمانية والحركات الديمقراطية. النقشبندية ابقت المجتمع في حالة جامدة وراكدة غير قابلة للتغيير والتطور وهو السبب الرئيس في بقاء المجتمعات متمسكة بالثقافة العشيراتية والاطاعة لشيوخهم وهو العلة الاساسية في تباعد الفرد الشرق الاوسطي عن مبادئ الاسلام الحقة، والانقطاع عن التطورات الخارجية على الصعيد العالمي والاكثر دهاء هو استخدام هذه الطريقة كاداة للقمع والفتن والفساد من قبل السلطات، كما تم أستغلالها ضد كل من الوهابيين والعصيانات الكردية، أي أن الطريقة تحولت إلى اداة سياسية بأيدي الحكومات والسماسرة العاملة على تسخير واحتكار قيم المجتمع لمصالحهم وهذا ما سنأتي على ذكره لاحقا من دراستنا لظاهرة النقشبندية ودروها في الحياة السياسية الشرق الاوسطية.
الطريقة النقشبندية ومرحلة تسيّسها
لم تغفل السلطة عن أهمية القوة البشرية والمالية والإمكانات الدعائية الّتي يملكها النقشبنديّون منذ بداية انتشار هذه الطريقة إلى اليوم. لذا جعلتهم الحكومات دائمًا نصب عينها، وترقّبتهم واستخدمتهم لدى كلّ فرصةٍ في قضايا خطيرة جدًا، سواء في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ، وعبر العهد الجمهوريّ، خاصّة بعد العقد الثاني من القرن الجاري. فانعكست نتائج هذا الواقع الخطير على حياة المجتمع متمثّلةً في نزعاتٍ وتموّجات متعاكسة، وحركات سياسية متشاكسةٍ انتهت في الآونة الأخيرة بتمايز الفئات الاجتماعية. وإذا أسقطنا مالا يستحقُّ ذكرُهُ من تلك القضايا الّتي لعب النقشبنديّون فيها دورهم بإيعاز من السلطة السياسية، فانّ خمسًا منها تَتَّسِمُ بأهميةٍ بالغةٍ، وهي:
الثورة الوهّابية الّتي انفجرت في المرحلة الأخيرة من العهد العثمانيّ ودامت أكثر من قرن.
النـزعة الماركسية والحركات اليسارية التابعة لها من بداية العهد الجمهوريّ حتّى سقوط الإمبراطورية السوفيتية.
الحركة الأرمنية الّتي نكست مجدّدًا من بداية السبعينات.
الحركة الكرديّة الّتي ثارت في المرحلة نفسِها ودامت حتّى الآن.
الصحوة الإسلامية الّتي انتشرت بدافع الثورة الإيرانية منذ عام 1979م.
استغلال السلطة للنقشبنديّين ضِدَّ الوهّابية:
وصلت النقشبندية في كردستان إلى درجة جعلت جميع شيوخ الطرائق الأخرى بدون تأثير مع إمتداد سواعدها إلى كل من الاناضول واسطنبول وهو السبب نفسه الذي حثَّ بالسلطان العثماني النظر فيهم بعيون قلقة. فإن أعوام 1820 هي الأعوام التي تلفت الانتباه حول التقدم الذي حققته النقشبندية في الدولة العثمانية, مما دعا السلطان العثماني "محمود الثاني" القيام بحملة لاعتقال مشايخهم والتهجير بهم الى خارج اسطنبول والحد من نفوذهم البادئ بالصعود. وعلى اثر هذا الحدث قام بجمع مؤيدهم في ليلة وهجر البعض منهم الى سيواس والبعض الاخر الى بغداد. الا انه وبعد ان شقَّ الوهابيين في الجزيرة العربية عصى الطاعة وجد السلطان العثماني في الطريقة النقشبندية بعامل لها الاهمية القصوى للحد من نفوذ الوهابيين البادئ بالتصاعد هو الاخر. دخلوا في محور علاقات طيبة معهم وتم منحهم مكانة بعد ان اجروا بعض الدراسات عليها. و لكون الطريقة النقشبنديّة لها تأثيرٌ عميقٌ في نفوس الأتراك والأكراد السنّيّين وهم قوام المجتمع العثمانيّ يومئذٍ؛ وكان لشيوخ هذه الطريقة مكانةٌ مرموقةٌ بين الطائفتين، وهما أشدّ ثقةً بآل عثمان الأسرة المالكة، وأكثر إنتماءً للدّولة العثمانيّة. فكان من نتائج هذا الواقع أن مارست الدولة العثمانيّة سياسة الإحتكار للقوة الكامنة في التجمّعات النقشبنديّة عبر قنواتٍ خاصّة سلكتها في تأسيس العلاقة معها. فما لبث حتّى استغلّت الدولةُ هذه التجمّعات وجنّدتها في تحقيق أغراضٍ خطيرةٍ جدًّا، فأثارت النقشبنديّين ضدّ الوهّابيّين الّذين كانوا قد شقّوا عصى الطاعة وانتفضوا ضدّ السلطة العثمانيّة في الجزيرة العربية.
ومن أواخر هذه البراهين وأظهرها وأشدّها تأثيرًا، وأكثرها انتشارًا: نشاطات تضليلية كثيفة يقوم بها ضابط عسكري متقاعد برتبة عقيد ٍ"حسين حلمي إيشيك" متخصّصٌ في علوم الصيدلة، مدعومٌ من قِبَلِ جهازٍ معيّنٍ، ومدسوسٌ في صفوف النقشبنديّين منذ بداية العهد الجمهوريّ. اتّصل هذا الرجل بالشيخ عبد الحكيم الأرواسيّ الّذي كان قد هاجر إلى مدينة إسطنبول عام 1919م. فأصبح من المقرّبين إليه، وتمكّن من الإطلاع على أسرار النقشبنديّين خلال المدة الّتي قضاها في صحبته. ثم حل محلّه بعد موته عام 1943م.، فاستطاع بذلك أن يقوم بتوجيه جماهير النقشبنديّة حسب الاتجاهات الّتي حدّدها لـه الجهاز المعهود. فكَتَبَ رسائلَ جمةً في هذه الأغراض، كما جمع أعدادًا من كُتُبِ الخالديّين ورسائلهم فطبعها ونشرها عن طريق مكتبتين مكتبة (الحقيقةHakikat Kitabevi )، ومكتبة (سرهندSerhend Kitabevi ) في إسطنبول؛ يشرف عليهما أعوانُهُ، وتُمَوِّلُهَا شركةٌ مهيمنةٌ ضخمةٌ ( İhlâs Holding) غالبها في مثالب الوهّابيّين والتشنيع عليهم وشتمهم ورميهم بالكفر والزندقة.
تنحصر مهمةُ هذا العسكريِّ المتشيّخِ على تأصيل مقوّمات العقيدة التقليدية للأتراك العثمانيّين، وبعث روح (التركيّ العظيم = Megaloturc) في نفوس الناشئة، على الرغم من معارضة المافيا المتحكّمة في تحديد سياسة الدولة وتوجيه الحكومة. وربما في ذلك سرٌّ لا نعلمه.
هذه المقوّمات الّتي هي بمنـزلة أركان الأيمان عند النقشبنديّين الأتراك، تتمثّلُ في ستة أمورٍ أساسيةٍ (بالاختصار)، وهي:
تقديسُ الدولة العثمانيّة، وسلاطين بني عثمان، والاعتقادُ بأنّهم جميعًا أولياء الله وخاصّتُهُ؛ وعدم الخوض في نزاعهم على السلطة، وفي جناياتهم، والسفَهِ الّذي كان يتّصف به بعضهم..
الاعتقاد بأن أولياء الله ينصرون الجيوشَ التركيةَ في كلِّ معركة تخوضها، ويحضرون مع كلِّ طليعةٍ منـها؛ »كما نصروهم في كوريا وقبرص« في العهد الجمهوريّ. ومعنى ذلك أنّ الجمهوريّةَ التركيةَ امتدادٌ للإمبراطورية العثمانيّة، ورمزٌ مقدَّسٌ لتاريخ الأمة التركية؛ تحمل مسئولية تمثيل الأمجاد لهذا التاريخ إلى يوم القيامة!
الاعتقاد بأن الوهّابيّين خاصّة، والعربَ جميعًا هم عصاةٌ جناةٌ، أهل البغي، خارجون على الدولة العثمانيّة - الدولة المقدّسة التي كان للعرب عامّةً وللوهّابيّين على وجه الخصوص دورٌ كبير في سقوطها-.
الاعتقاد بأنّ الشيعة على اختلاف مذاهبهم ملحدون خارجون عن الإسلام لموقفهم السلبيِّ من الدولة العثمانيّة بعد الحرب الّتي وقعت بين السلطان سليم الأوّل والشاه إسماعيل الصفويِّ، والتي انتهت بانتصار القوات العثمانيّة على الجيش الإيراني عام 1514م.
الاعتقاد بأنّ الصوفيّة الّذين أُدرجت أسماؤهم في القائمة البيضاء، هم أولياء الله وصفوتُهُ من عباده، تُرجىَ شفاعتُهم، ويجب التوسّل بهم، والتبرّك بقبورهم. ذلك لأنّهم ينوبون عن الله بالتصرّف على الكون (في اعتقادهم). والقائمة البيضاء، هي "موسوعة مقدّسة" (في اعتقادهم أيضًا). وشهيرةٌ بينهم؛ أصدرتها مؤسّسةٌ وقفيةٌ يُشرف عليها العقيد المشار إليه آنفًا، وتُمَوِّلُها شركة عالمية عملاقةٌ للنقشبنديّين؛ تشترك في الاسم مع المؤسّسة الوقفية المذكورة، ويشرف علي هذه الشركة صهر العقيد الّذي مرّ ذكرُهُ.
الاعتقاد بأنّ المذهب الحنفيَّ (الّذي تتعصّب لـه الغالبية العظمى من الأتراك السنّيّين) أفضل المذاهب الإسلامية؛ وأبو حنيفة »هو الإمام الأعظم«! ذلك لأنّه غير عربيّ الأصلِ، وأنّه قتيل العرب العبّاسيّين. وعلى كلٍّ، لـه ولمذهبه الأفضليةُ في الفقه التطبيقيِّ؛ أدناه، أولوية الشخص الحنفيِّ بالإمامة على غيره من تابعي المذاهب الثلاثة، ولو كان هو أميًّا وغيره من أهل العلم.
العلاقات بين السلطة والنقشبنديّين في العهد الجمهوريّ.
لهذه الأسباب (ولها تفاصيل، ليس هذا مقام سردها). يغلب أن تلك القلةَ من اليهود الّذين فرضوا أنفسهم على المجتمع، كانوا متردّدين في أمر الجماعات المتباينة، والمنظمات، وطبقات الناس لدى الخطوة الأولى بعد نجاحهم بالسيطرة على أجهزة الدولة بتمامها، يتفقّدون مِنْ بينها مَنْ يمكن أن يستغلوا أفرادَها ويستعينوا بهم حتّى يشتدّ ساعدهم في الحكم؛ ويمسُّونَ الخطرَ في الوقت ذاته من أكثرهم خاصّة من جماهير النقشبنديّين الّذين كانوا يمثّلون معشر المسلمين في نظر هذه العصابة اليهودية؛ مع أنّ الحقيقة كانت خلاف ذلك. فهذا الّذي جعلهم في الوهلة الأولى يقومون بخطة إرهابية لاكتساح النقشبنديّين حتّى يتمكّنوا بعد ذلك من القيام باللّعبة الكبرى مع اليهود الأصليّين الإسبان في تحقيق الأهداف النهائية.
هكذا بدأ الصدام بين السلطة والنقشبنديين منذ أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني. حيث كان الاتّحاديون اليهود قد وثبوا على الحكم في تلك المرحلة. ولكن يجب هنا أن نتذكّر مرةً أخرى بأنّ هذه العصابة الحاكمة إنّما استعدّت لشنّ الحرب على النقشبنديّين بسبب إلتباسهم عليها، واعتقادها الخاطئ في نسبتهم إلى الإسلام. فقامت بتنظيم ثلاث مؤامرات ضدّهم: نُفّذتْ الأولى منها يوم 13/أبريل/1909م. قُتِلَ فيها جمهور من عوامّ النقشبنديّين ورجل صحفيٌّ منهم اسمه درويش وحدتي؛ وانتهت بخلع السلطان عبد الحميد، على أنه يساند القُوَى الرجعية ويستغلُّها في طغيانه واستبداده. والمؤامرة الثانية نُفّذتْ في المنطقة الكرديّة بعد عامٍ من إعلان النظام الجمهوريّ، ما بين مدينتي أرض الروم و دياربكر؛ وهي في ظاهرها ثورة الشيخ سعيد البالوي الّتي مر ذكرها. أما في الحقيقة فإنّهالم تكن إلاّ خطّةً مدروسةً من قِبَلِ جهاز المخابرات التابع للطغمة الحاكمة من يهود سالونيك. ثبتتْ بدلائل قاطعةٍ، أكبرها إثارة الشيخ سعيد على حين لم يفكّر إطلاقًا بأي عمل ضدّ النظام. فأثاره جهاز المخابرات بوساطة منظمةٍ سريةٍ أسّسها بإيعاز من الحكومة بالذات في المنطقة تحت إشراف الرائد قاسم أتاج. وذلك لسحب العشائر الكرديّة من النقشبنديّين إلى ساحة القتال. فإنّ اختيار جهاز المخابرات لتحميل الشيخ سعيد، قيادةَ الثورة مسبقًا، دون أن يختار لهذا الدور زعيمًا من رؤساء العشائر، يبرهن بصورة قاطعة أنّ المؤامرة لم تكن مدبَّرة لمجرد التنكيل بالأكراد، بل كان الغرضُ منها إيقاعَ النقشبنديّين في الكمين أوّلاً، فيكون الأمر ذريعة للقضاء على كل من يسوقه القدر إلى ساحة الغضب من الأكراد دون تمييز بين أن يكون نقشبنديًّا أو لا. والمؤامرة الثالة هي "وقعة مَنَامَنْ".
أحد تلكما الهدفين وأهمّهما هو التعرُّف على الطائفة النقشبنديّة وعلى جميع ما تتعلّق بهم من عقائدَ وميّزاتٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ؛ ونزعاتٍ وعلاقاتٍ واتصالاتٍ كانت تجري بين مشائخهم. تمكّنت الحكومةُ من جمع معلومات رهيبة حول هذه الطائفة أثناءَ محاكم الثورة عام 1925م.؛ كما تأكّدت من مدى قوّتهم البشرية والمالية ومدى تعاونهم فيما بينهم.
والهدف الثاني أنّ الحكومة استطاعت أنْ تروّضَ النقشبنديّين على العمالة السياسيّة، بطمسِ الشهوة السياسية فيهم وإجهاضِها، وزرْعِ بذور الشقاق بين مشائخهم. لهذا، هناك تطابُقٌ كبيٌر بين آراء كلٍّ من الطغمة الحاكمة وبين شيوخ النقشبنديّين الأتراك في أمور خطيرة. ومن أهمّ نقاط الاتفاق بين الطرفين في الوقت الحاضر: هو موقفهما من الإسلام بأن يُجرَّدَ من الحياة الاجتماعية تمامًا؛ وأن لا يخرج مفهوم الدين من أعماق الضمائر، ولا من بين جدران المساجد أبدًا. تدل على ذلك مقولة للنقشبنديّين يردّدونها على سبيل التحذير من استغلال الدين لأغراضٍ ومصالحَ سياسيةٍ - في ظاهر الأمر -، ولكنهم في الحقيقة لا يريدون بها إلا أن يسقط الإسلامُ ويتحوّل إلى دينٍ يتأوَّلُهُ كلُّ شخصٍ في تحديد علاقته مع ربه على حسب فهمه ورأيه وذوقه؛ إلى دينٍ لا ضابطَ لـه فيما يتعلّق بالحياة الإجتماعية على الإطلاق. طالما كانت الزمرة الحاكمة ولا تزال تستخدم هذه المقولة في تخدير المشاعر من جانب، وفي تهديد المسلمين من جانب آخر! جاءت هذه المقولة بصراحة في موسوعة للنقشبنديّين هذا نصها باللّغة التركية: Bugün sahte, yalancı mürşitlere, müslümanları sömüren tarikatçılara, dini siyasete alet
Edenlere çok rastlanmaktadır.
İslâm Alimleri Ansiklopedisi 15/329.
ولكن الهدف من تلك المقولة ليس إلاّ الحيلولة بين الإسلام وبين ما جاء لأجله، وإلغاء أحكامه..
إن النقشبنديّين اليوم يختلفون كثيرًا عن أسلافهم في موقفهم من السياسة والسياسيّين. لم تعد السلطة تَهَابُهُم، ولا تعتدّ بهم. بل ترتاح لكثرة عددهم ونشاطهم. لأنهم كلّما ازدادوا عددًا ونشاطًا، ازدادت بهم السلطة قوّةً وتحكّمًا. ذلك لأنّ نجاح الأحزاب السياسية في الانتخابات العامّة متوقّف على دعمهم. فلا يمكن لأيِّ حزب أن يفوز بأعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات العامّة إلاّ أن يكون قد أَقْنَعَ عددًا من شيوخ هذه الطريقة وجَذَبَهُمْ إلى صفوفه. لذا فانّ الأحزاب تتنافس في سبيل اكتسابهم؛ ولأنّ النجاح في كسب دعمهم ضرورة لا مهرب منها لإرضاء الطغمة الحاكمة من يهود سالونيك وعملائهم الّذين يملكون زمام الحكم في كلّ مرحلةٍ، ويحتكرون السلطة من خلال أيِّ حزبٍ يفوز بالانتخابات العامّةِ. ولهذا السبب، لما أظهر النقشبنديّون الجرأةَ على تشكيل حزب سياسيٍّ بعنوان "حزب النظام الوطنيِّ" بتاريخ 8/فبراير/1970م.، وبدءوا يتدرّجون إلى الحكم، دَبَّ الذعرُ في صفوف يهود سالونيك. فسرعان ما انقضّوا على هذا الحزب ببطش شديد، وأنزلوا به ضربتهم القاصمةَ وفتكوا بأوصاله (أُلغي الحزب المذكور (Milli Nizam Partisi) بتاريخ 21/مايو/1971م. ثم أُعيد تشكيله بعنوان حزب السلام الوطني(Milli Selâmet Partisi) عام 1973م. ثم أُلغي هذا الحزب أيضًا مع جميع الأحزاب السياسية بعد الانقلاب العسكريّ (12/سبتمبر/1980م.) ثم أعيد تشكيله للمرة الثالثة بتاريخ 19/يوليو/1983م. وكان اسمه في هذه المرة حزب الرفاه (RefahPartisi) ثم ألغي أيضًا في الشهور الأولى من عام 1998م). فبدأت مرحلة جديدة لإعادة التجربة نفسها في حيطة وحذر بالغ، فتكرّرت إعادة تشكيل هذا الحزب أربع مرات تحت شعارات وأسماء مختلفة في كلِّ مرةٍ بعد السقوط الأوّل، ولكن باءت المحاولات بفشل ذريع في النهاية، وألغي حزب الفضيلة الّذي كان معقل النقشبنديّين يوم 22 /يونيو-حزيران/ 2001 . إلاّ أن كبار هذا الحزب مازالوا يحتفظون بالأمل كما يظهر من الحركة الّتي تدبُّ في صفوفهم. وقد أبدوا استعدادَهم أخيرًا على تجربةٍ جديدةٍ لممارسة السياسة بعد أن أقدموا على تشكيل حزبٍ جديد سمّوه "حزبَ السعادة" والعيون تترقب في تساؤل عن موقف النقشبنديّين في تعاملهم مع يهود سالونيك بعد اليوم!
لما حصدتْ السلطةُ اليهوديةُ عام 1925م. ستةً وثلاثين ألفًا من النقشبنديّين الأكراد في المنطقة الشرقية بذريعة "الثورة الإسلامية" الّتي لم تكن في حقيقتها إلاّ خطّةً مدبَّرةً ومدروسةً أُلْصِقَتْ بهذا الشيخ النقشبنديّ على حين غَرَّةٍ منه؛ استعدّتْ العصابةُ اليهوديةُ لتنفيذ خطةٍ ثانية في المنطقة الغربية، ليتمّ بها حصاد النقشبنديّين الأتراك هذه المرة عن بكرو أبيهم، فتتخلّص اليهود بذلك من أسطورة الخوف نهائيًّا.
تَمَّ تنفيذ هذه الخطة ثانيةً في مدينة مَنَامَنْ يوم 23/ديسمبر/1930م. وهي مدينة صغيرة على مقربة من ولاية إزمير. انتهت هكذا صفحة هامّة من تاريخ النقشبنديّة وبدأت مرحلة جديدة في سير العلاقات والتعامل بين يهود سالونيك وبين النقشبنديّين بعد هذه المؤامرة.
ومن الأهمية بمكان، أنّ الخِطَّتين جاءتا بنتيجة غريبة لم تكن في الحسبان وقد لم تكن تلك هي المقصودُ بالذات من تنفيذهما. بل كانت العصابة الحاكمة في الحقيقة إنّما تريد القضاء على النقشبنديّين عن بكرة أبيهم، لأنّها ترى جميع المسلمين متجسّدين فيهم! ولكن لمّا جمع القدر بين الطرفين في جلسات محاكم الثورة - خاصّة بعد الخطّة الثانية-، وجرت بينهما سلسلة من الحوار، تأكدت الزمرة الحاكمة من أنّها خاطئة في هذه النظرة؛ و ظهرت بالتالي من خلال هذه الحوارات الطارئة مدى تطابق العقلية النقشبنديّة مع العقلية اليهودية التركية في تفسير علاقة الإنسان بربّه. إذ أنّ توجّه العبد إلى الله من غير واسطة، يراها الطرفان خروجًا على أركان الدين، وجرأةً على الله، واقتحامًا بحرمة »وكلاء الله المفوَّضين بالتصرّف عنه في الكون« (على حسب عقيدتهما)؛ تعالى الله عما يصفه الفاسقون! كذلك تأكَّدَ كلُّ طرفٍ من تعصُّبِ الطرف الآخَرِ للعنصر التركيّ وتفضيله على سائر العناصر عن طريق هذه الحوارات.
فلما ظهر هذا التطابق بين عقيدة الطرفين، وتبيّنها كلٌّ منهما، انهارت سدود العداوة بينهما شيئًا فشيئًا بعد ذلك؛ وازداد التقارب خاصّة بعد انتخابات 1950م. الّتي فاز الحزب الديمقراطي فيها بدعمٍ من النقشبنديّين. إلاّ أنّ رئيس الوزراء عدنان مندريس، لمّا علم أنّ المسلمين أيضًا سوف ينالون حظًّا كبيرًا من الحرية الّتي متّع النقشبنديّين بها، وبدأ يتوجّس خوفًا من انتشار عقيدة التوحيد، وازدياد عدد الموحّدين الحنفاء في تركيا، جاء بمشروعٍ ليوُحّدَ به صفوف جميع النقشبنديّين تحت زعامة شيخ واحدٍ حتّى تسهل مراقبتهم، والتحكّم في المسلمين بواسطتهم في الوقت ذاته.
قيل أنّه أصدر تعليمات للمختصين من أمناء سره ليجدوا لـه رجلاً يكون على شيءٍ من الحماقة، كثير الصمت، كبير الهامةِ، طويل الأنف أحول... وأن يقوموا بالدعاية لـه بين صفوف النقشبنديّين على أنّه غوث الزمان وقطب الفلك حتّى يَلْتَفَّ حولَه رعاع الناس والبسطاء، تنفيذًا لمشروعه. فلم يلبث أن تحقّقت آمالُهُ في أمد قصير. فوجدوا لـه رجلاً بنفس المواصفات، وأقاموا لـه مقرًّا على الطريق الّذي يربط بين مدينتي بدليس ودياربكر. فجنّدتْ الحكومةُ رهطًا من رجالٍ مدرّبين على الصفة المطلوبة للدعاية لـه، معظمهم من ضباط الصف المتقاعدين.
وما أن تبعثر هؤلاءِ المنتحلون بين صفوف الناس وتسلّلوا إلى المحافل والمجالس والمساجد يدعونهم للانتساب إلى هذا الشيخ، انهالت جموع غفيرة من مختلف أنحاء البلاد إلى هذه المنطقة المجهولة، يتهافتون عليه وينخرطون في سلكه. فأثاروا ضجّةً بوصف كراماته، فسُحرتْ عقول الناس بما أُقيمت من حفلاتٍ وطقوسٍ وحلقاتٍ هيّجت الملايين، فتخدّرت المشاعر، وصُدَّتْ الوجوه عن حقيقة الإسلام تمامًا. فاختلط الصوم والصلاة والحج والزكاة بالختم الخواجكانية، والحلقات اليوغية، والرابطة الهندوكية، وعدّ الأذكار بالحصى، والتركيز على الصورة الفوتوغرافية للشيخ، والتبرّك بالقبور، والاستمداد من الروحانيين؛ وتصاعدتْ أصوات غريبة من حناجر المجذوبين في التكايا والمساجد والبيوت والشوارع ليلاً ونهارًا، أصيب آلافٌ مؤلّفةٌ من الدراويش بمرض الهيستريا، واختفت نشاطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبطلت أعمال الدعوة والإرشاد، و ماتت روح الجهاد. ولكثرة إلتفاف الناس حول هذا الشيخ، اشتدّ الحرج على المسلمين. فمن رفض منهم أن يواليه، تعرّض للسُخرية من قِبل جماهير النقشبنديّين، ورُمِيَ بالعداوة "لأولياء الله"، وأُطلق عليه صفة "المنكر" و "الوهّابي"! فلم يعد أحد يتفكّر في خاصّية حياة الرسول وشخصيته وسيرته. بل اعتقد الناس أنه عليه الصلاة والسلام كان على سيرة شيوخ النقشبنديّة (؟!) كما اختفت أيضًا بهذا الدافع ضجيج الفِرَق والأحزاب المتنازعة؛ فارتاحت حكومة مندريس وتمكّنت بفضل النقشبنديّين من تحديد الحركة الإسلامية في تركيا بشكل ملحوظ.
والأدهى من ذلك، هو أنّ حكومة مندريس وافقت على مشروع القانون رقم 5816، بتاريخ 25/07/1951م. الّذي ينص على تأليه الزعيم التركيّ، كما اهتمّت بتنظيم الطقوس الّتي تُقام في معبد الدين الجديد بأنقره، ذلك الدين الّذي اعتنقه جميع الأتراك اليهود، وملايين من الأتراك المرتدّين عن الإسلام، والّذي سُمِّيَ بـ "دين الترك المعاصر". تحمّل مندريس هذه المسئولية الخطيرة إرضاءً لشهوة يهود سالونيك المتسلِّطين على الحكم. فانّ في هذا الإقدام الخطير حقائق لم ينتبه إليها كثير من الباحثين حتّى الآن. أهمّها أنّ اليهود الأتراك كانوا يشعرون بحرج بالغ أنّهم يدينون باليهودية، وجمهور عظيم من بني جلدتهم يدينون بالإسلام. ومعنى ذلك: »أنّ هؤلاء القوم خاضعون لِدِيَانَتَيْ شعبين أجنبيّين من الأصل الساميِّ، وهم من الأصل الطورانيِّ. وهذا يحط من كرامتهم القومية، ويقلّص من استقلالهم التاريخيِّ والثقافيِّ«. ويؤكّد على هذه الحقيقة ما كتبته الباحثة الإنجليزية جرايس أليســونGrace Ellison. في كتابها Turkey Today. وما تفوّه به أحد شعراء الأتراك من الجماعة اليهودية اسمه كمال الدين كامو هذه كلماته في نظمٍ لـه:
Ne örümcek ne yosun * Ne mucize ne füsûn
Kâbe Arabın olsun * Bize Çankaya yeter
معانيها باللّغة العربيية:
لا عنكبوت ولا طحلب * لا معجزة ولا تعويذة
دع الـكعبة للعـرب * يكفينا قصرُ شـنكايا.
وثمّ دلائل أخرى كثيرة.
أما الّذي يمس موضوعنا في هذا السياق؛ أنّ هذه الفكرة الخطيرة لم تخامرهم إلاّ بعد إطلاعهم على أسرار الطريقة النقشبنديّة وحقيقة هذه الطائفة مؤخّرًا. ذلك لا يُستبعد أن يكون كثير منهم قد اعتـزوا بأنّ رجالاً من قدماءِ هذا الشعب الطورانيِّ قد استطاعوا قبل سبعة قرونٍ أنْ يحدّدوا لأمّتهم اتجاهًا خاصًّا في تفسير مفهوم الإسلام بشكلٍ يفصل بينهم وبين العرب في الانتماءِ الدينيِّ باسم النقشبنديّة من منطلق الاشتياق إلى الاستقلال الذاتيِّ الّذي يُضمره العنصر التركيّ منذ القديم، كما ترمز هذه الحقيقة في حد ذاتها إلى الصراع العربي-التركيّ على احتكار الإسلام عبر التاريخ.
يبدو أنّ الزمرة اليهودية الحاكمةَ لم تقتنع بعمالة مندريس وإخلاصِهِ لها في إجهاض الحركة الإسلامية بالقدر الّذي حمل على الحركة الماركسية والكرديّة. بل أحست بخطر عندما وجدت النقشبنديّين قد اجتمعوا تحت زعامة شيخٍ واحدٍ في شرقي البلاد. وبخاصّةٍ فانّ النقشبنديّين الأتراك أيضًا كانت نشاطاتهم في المدن الغربية قد ازدادت في تلك المرحلة بتوجيهٍ من أحد شيوخهم البارزين اسمه سليمان حلمي طوناخان رئيس الفرقة المعروفة بـ »السليمانية «Süleymancılar، كما لوحظ انتعاشٌ كبيٌر في حركات جماعة النور على مستوى البلاد. فأوجست الزمرة الحاكمة خوفًا من كلِّ هذه التطوّرات، أن تتحوّل في النهاية إلى حركةٍ إسلاميةٍ صحيحةٍ، أو حركةٍ نقشبنديةٍ موحّدةٍ لا قبل لهم بها. فأطاحوا بحكومة مندريس يوم 27/مايو/1960م. ثم قتلوه شنقًا يوم 17/سبتمبر/1961م. واختطفوا جثمان سعيد النورسي (زعيم جماعة النور)، من مدينة أورفا بعد دفنه بقليلٍ. وذلك عام 1960م. كما نقلوا مقرَّ شيخ النقشبنديّين الأكراد من المنطقة الشرقية إلى قريةٍ اسمها (المنـزل) بالمنطقة الجنوبية قربَ مدينةِ آديامان بعد مدّةٍ قصيرةٍ لسبب هامٍّ سوف نتطرَّقُ إليه ؛ وقضوا على مثابات جامعة الزهراء. ولكن استمرّ دعم السلطة اليهودية للشيخ المذكور ولأولاده، كما استمرّت في الوقت ذاته مطاردتهم للمسلمين إلى اليوم.
وقد غلب الجهل على هؤلاء المساكين إلى حدٍّ لا يكاد أحدٌ منهم يفهم أنّ الزمرة الحاكمة قد أصبحت اليوم في غنى عنهم. ولكنها تتعاون مع عدد قليل جدًّا ممن يحتفظ بمكانته وشهرته من الشيوخ النقشبنديّين الأتراك وتستغلُّ زمرةً من بينهم، لا يتجاوز عدد البارزين منهم على سبعة أشخاص فحسب. وهم بالتحديد: العقيد المتشيّخ حسين حلمي إشيك؛ ورجل يتـزعم قطاعًا كبيرًا من جماعة النور اسمه فتح الله كولان؛ ورجل في المنطقة الجنوبية قرب مدينة آديامان (وهو عربي مستكرَد)، احتلّ مكان أبيه وجدّه الّذي ذاع صيته بدعم جهاز المخابرات في عهد مندريس؛ وزعيم الطائفة السليمانية؛ ورجل متشيّخٌ مدسوسٌ (مثل الضابط الّذي مرّ ذكره) يقوم بنشاطاته في منطقة ساكاريا، ورجل من بقايا الشعب البُنْطُسيّ اليوناني من أهالي مدينة طربزون. قد اتخذ من مسجد إسماعيل آغا بإسطنبول مقرًا ومركزًا. وثَمَّ شخص أخر، قد خلّفه شيخ الداغستانيين. وهناك عدد أقل ارتباطًا برجال السياسة وهم خلفاء محمود سامي رمضان أوغلو المعروف بـ "شيخ التجار" في إسطنبول؛ وخلفاء إسماعيل حقي أهرامجي الّذي كان يبث دعوته من مدينة سيواس في أواسط آناضول.
لذا، يرفض الرجل النقشبنديّ على الإطلاق، أن يتعاون مع أيّ إنسانٍ لا يعتقد بمعتقداته المرسومة في طريقته؛ و إذا شاركه في عمله، لا يُخلص لـه أبدًا؛ بل يضمر لـه البغضَ ويحتقره ويستقذره، ويتربص فرصة الإيقاع به متى سنحت لـه، وإن كان ذلك الإنسان، من أتقى الناس و أعلمهم، وأفضلهم سلوكًا، وأحسنهم خلقًا؛ ولكن الرجل النقشبنديّ لا يقصّر في التعاون مع أيّ شخصٍ يتظاهر لـه بالتصديق على كرامات شيخه والتعظيم لـه، والموافقة على معتقداته و ممارساته لآداب طريقته، وإن كان ذلك الشخص ملحدًا، دهريًّا أو مشركًا! ولهذا لم يتخلّف النقشبنديّون - على الأقلّ - عن التحيُّز إلى الفئة المتغلّبة، واتخاذ الموقف المضادِّ من أهل التوحيد الحنفاء. بل قد شاركو الحكومات العلمانية في مواقف عديدة وبصورة فعلية ضدَّ الحنفاء المسلمين، وإن اقتصر ذلك على إبداء الرأي غالبًا.
ذلك أنّ نسبة طاقة الدعم السياسيِّ الّتي يمثّلها النقشبنديّون في تركيا تفوق على خمسة وستّين في المائة. هذا بغضّ النظر عن الأعداد التي تُحرّكُها هذه الطائفة بطرقٍ غيرِ مباشرةٍ، وتجتذبها إلى صفوفها في مواسم الانتخابات، لا تقل عن سبعة في المائة. وهكذا تنجلي أمام العيون بأنّ هذه القوّة الهائلة كيف قد تحولت إلى آلةٍ خطيرةٍ بيد الأحزاب السياسية في تحريك عجلة الديمقراطية الزائفة في تركيا!
أهم الحركات السياسية الّتي استخدمتْ السلطةُ النقشبنديّين في مقاومتها.
إنّ استخدام السلطة للنقشبنديّين لم ينحصر في الحرب ضدّ الوهّابيّين فحسب، وإنّما شمل الحربَ ضدّ أحزاب، وحركات سياسية كثيرة في العهد الجمهوريّ، أهمها أربعة، مرّ ذكرها بإيجاز. إنّ الدخول في تفاصيل التعاون بين السلطة والنقشبنديّين في كلِّ هذه الحروب، ربما يتجاوز في بعض نواحيها حدود بحثنا. لذا، نقتصر على النتائج السلبية لهذا الاستغلال الّذي تمخّض عن أضرارٍ كبيرةٍ على الإسلام والمسلمين.
استغلت السلطة النقشبنديّين في مقاومة الحركة الماركسية مدةً أكثرَ من خمسةٍ وثلاثين عامًا بعد العقد الرابع من العصر الحاضر. فجنّدتهم في صفوف "جمعية الكفاح ضدَّ الشيوعية". فأثارت بذلك فيهم نزعة الرأسمالية البحتة وروّضتهم على الانتماء إلى هذه الفكرة باسم الحرية. فأصبح مفهوم الحرية مشوّهةً بصبغتِها، وسادت في هذه الصورة على عقولهم. ولم يكن الناجح في هذا التعاون إلاّ اليهودَ الرأسماليّين. فازدادوا بذلك قوةً حتّى استغلّوا النقشبنديّين في أغراضٍ أخرى، كما تحكّموا فيهم، وقادوا كلَّ جماعةٍ منهم في وُجْهَةٍ لا تلتقي فيها بجماعةٍ أخرى من النقشبنديّين؛ فسدّوا عليهم بذلك طريق السياسة المباشرة بحيث كلّما قامت فئةٌ من النقشبنديّين بتشكيل حزب سياسيٍّ قضوا عليه قبل أن يتسلّم زمام الحكم؛ وسلّطوا بعضهم على بعضٍ، كتجربتهم في تصعيد ترغوت أوزال على منافسيه. لأنّه كان نقشبنديًّا علمانيًّا متعصّبًا لتعاليم يهود سالونيك.
استغلّ يهود سالونيك المتغلبون على مرافق الدولة التركية بوساطة حكومات مزيّفة، استغلّوا فئاتٍ من شباب عائلاتٍ نقشبنديةٍ في القضاءِ على الحركة لّتي قامت بها عصابات أرمنية ضدَّ الدبلوماسيّين الأتراك في الخارج ما بين 1970-1985م. ثمّ قضوا أخيرًا على هؤلاءِ الشباب بوساطة منظمةٍ مهمّتُها اغتيال أشخاصٍ اطّلعوا على أسرارهم!
ثم استغلّت السلطةُ جماعةً من أبناء النقشبنديّين الأكراد ضدّ الحركة الكرديّة الّتي قام بها حزب العمال الكردستاني، وذلك بتشكيل حزبٍ سرِّيٍّ آخر باسم "حزب الله"[1] ولكن السلطة اليهودية قد أصبحت في عجز عن ضبط هذه المنظمة. لأن عنانها قد انفلتت في الآونة الأخيرة من يد من كان يوجّهها حسب أوامر الطغمة اليهودية الحاكمة كما يبدو. وثَمَّ أشخاصٌ بارزون بثقافتهم ومكانتهم الإجتماعية من أبناء مشاهير النقشبنديّة، تطوّعوا ضدّ الأكراد بأقلامهم ودعاياتهم الإعلامية؛ وعلى رأسهم أحمد الأرواسيّ.
إنّ أحمد الأرواسيّ الّذي شاع بين مريدي آبائه أنّ عائلتَه تنحدر من سلالة الحسين بن علي ابن أبي طالب، من الغريب أنه يتناسى هذه النسبةَ، بل يكتمها بلباقةٍ عندما يهاجم القوميةَ الكرديّةَ ويشدّد النكيرَ على من يدّعي أنّ للأكراد لغة خاصّة باسم اللّغة الكرديّة. والّذي يُستَغْرَبُ من أحمد الأرواسيّ في هجومه الّذي نشره في كتابٍ خاصٍّ؛ (هذا الكتاب نُشر عام 1992. تحت عنوان: Doğu Anadolu Garçeği ) أنّه اتخذ هذا الموقفَ الحماسيَّ من منطلَق الدفاع عن القومية التركية إرضَاءً لشهوة الزمرة الحاكمة.
هذا، وإنّ قادة الحركة الكرديّة لما تأكّدوا من أنّ السلطة تستخدم النقشبنديّين في الكفاح المسلح ضدّهم من جانب، كما تستخدم رهطًا من مثقّفيهم من أمثال أحمد الأرواسيّ في تخدير مشاعر الأكراد وتعميتهم عن الصحوة القومية من جانب آخر؛ بدءوا يوجِّهون ضرباتهم إلى عائلات نقشبندية، واستعدّوا لاغتيال شيخهم الّذي كان جدُّهُ قد نُصب على هذه الطائفة كمرجعٍ أعلى بإيعاز من رئيس الوزراء الأسبق، عدنان مندريس. ولكن القوات الأمنية قامت بالقضاء عليهم في لحظته؛ وكان جدُّ هذا الشيخ قد نُقِلَ إلى ناحيةٍ بقرب مدينة أديامان النائية عن ساحة النشاطات السياسية للأكراد، لنفس الأسباب قبل انتشار الحركة الكردية إلى جميع أنحاء المنطقة يومئذ.
إنّ استغلالَ السلطةِ للنقشبنديّين ضدَّ كلِّ هذهِ الحركاتِ السياسيةِ، في الحقيقة كان الهدفُ منه، ترويضَهُمْ على السيرِ طبقًا للقواعد المرسومة لهم؛ وعلى الطاعة العمياء في الخطوة الأولى؛ وترسيخ قواعد الرأسمالية ضدّ المستضعفين، وسدَّ الانتباهَ ضدّ الصحوة الإسلامية الّتي بدأت منذ سنين تنتشر في أنحاء العالم كخطوة ثانية.
النقشبندية وأسسها الفلسفية
إذاً وكما رأينا أن النقشبندية هي طريقة مبنية على اسس التصوف و هي كسائر الطرق الاخرى تملك بعضا من القوانين الخاصة بها، و اهمهما " لا بد من ان يكون كل انسان مرتبطا بمرشد" و المرشد هو شيخ الطريقة . يعد هذا قانونا اساسيا و هي بمثابة الاضطرارية " الذي لا يكون له شيخا فدليله الشيطان"
تزعم أمريكا بأنها ترغب في الاستمرار في حركة الإسلام التي سيَّرتها تجاه الشيوعية عبر نظرية "الجيل الأخضر"، وذلك بنمط الإسلام المعتدل تجاه الإسلام الراديكالي، في اليوم الراهن. وهي تجرب ذلك على تركيا، سعياً منها إلى تطبيقها على مستوى المنطقة والعالم بزعامة "فتح الله غولان" بشكل خاص، بتسييرها لمشروع إصلاح إسلامي شامل. إن الدور السياسي والاجتماعي للأيديولوجية الإسلامية سلبي، بسبب منعها المجتمعات من أن تكون شفافة ونقية في نهاية المطاف. إنها – تلك الأيديولوجية – بعيدة عن أن تكون التفسير الحقيقي للتقاليد الاجتماعية.
يغلب الشكل السُّنّي النقشبندي على الإسلام السياسي المهيمن على الكرد وكردستان. وللشيوخ وزعماء الطرائق الدينية الكرد النصيبُ الأوفر في تطور النقشبندية ذات الماضي التاريخي الطويل، في منطقة الشرق الأوسط. إنه ضرب من السعي لملء الثغرات الأيديولوجية بالنقشبندية. حيث يلاحَظ انتقال القيادة الأيديولوجية إلى قبضة الشيوخ النقشبنديين بعد عهد انتفاضات الآغاوات. فالنقشبندية بارزة في النقوش الأيديولوجية لعصيان النهري في 1878، وللتمردات المندلعة في القرن العشرين بزعامة بتليس موتكي في 1914، والشيخ سعيد في 1925، والشيخ أحمد البارزاني في 1930، وللحركات البارزة في أعوام 1960 بزعامة كلٍ من البارزاني والطالباني. كما أن النقشبندية بارزة أيضاً في التركيبة التركية – الإسلامية الجديدة البارزة بُعَيد 1980. هذا وقد قامت النقشبندية بحملة مهمة في صفوف حزب ANAP في عهد "تورغوت أوزال Turgut Özal" أيضاً. وقد كانت الطرائق الدينية قبلها في صفوف الحزبين DP وAP. إلا إنها بنت مؤسساتها بعد انقلاب 12 أيلول – وبحماية الدولة لها – في كل الميادين، فأسست الأحزاب والدُّور والمدارس والجمعيات والاتحادات والإعلام، واستأجرت الأراضي واستملكتها. من المؤكد أنه تم القيام بثورة مضادة أيديولوجية تجاه أيديولوجية الجمهورية الكمالية، ولكن النمط سُيِّر بشكل صامت وخفي، لا بشكل علني. لا تزال هذه الثورة المضادة موضوعاً يلفه الغموض ويكتنفه الظلام، حيث لم يُسدَل الستار عن أبعادها الرسمية الداخلية، إلى جانب أواصرها مع أمريكا.
إن "الحاج فتح الله" هو أحد العناصر الأولية المهمة. إذ يُقال بأنه يقوم بحضرنة "سعيد النورسي" (وهو الزعيم النقشبندي للمرحلة الانتقالية، والاسم الأبرز منذ تأسيس الجمهورية وحتى 1960). بالإمكان القول أنه زعيم لضرب من ضروب الإنجيلية التبشيرية للعالَم الإسلامي المتحالف مع أمريكا. حيث يشاهَد التوجه نحو الصعود مع حزب AK بزعامة "رجب طيب أردوغان" كموجنديين البارزين أماكنهم المرموقة في أجهزة الدولة والسياسة الرسمية، والذين يتبنون ميراث "الشيخ سعيد" و"سعيد النورسي"؛ من قبيل "عبد المَلك فرات" (رئيس حزب الحقوق والحريات) و"غونايت زابسو" (رئيس الهيئة الاستشارية لدى رجب طيب أردوغان) و"حسين جليك" (وزير التعليم القومي) و"زكي أزغازان". وما الطالباني رئيس YNK، والبارزاني رئيس KDP، سوى شيخان في ذات الطريقة النقشبندية، ويؤازران تقاليد النقشبندية في تركيا. وقد قاما بالعديد من التمشيطات المشتركة مع الدولة التركية منذ عهد أوزال، تجاه الحركة الكردية الكادحة والديمقراطية.
لا يمكن الجزم بتنظيمات النقشبندية الأخرى المؤسَّسة في الشرق الأوسط بدعم من أوروبا وأمريكا، وذلك لنشاطها نصف العلني. لكن، من الضروري العلم بأنها ذات تأثير يماثل تأثير الشيعة، بأقل تقدير. ولا جدال في أن علاقاتهم المقامة مع أمريكا ذات أبعاد استراتيجية، وأنهم يتميزون بدور أيديولوجي وسياسي مهم في مشروع الشرق الأوسط الكبير. وما الإسلام المعتدل في أصله سوى إسلام نقشبندي. ومع مرور كل يوم يُسدَل الستار عن تحالفهم مع أمريكا في تحركاتهم ضمن منهاج محدَّد يصل حتى حدود آسيا الوسطى. حيث يتم البروز عبر الإسلام المعتدل المستحدَث بنمط بديل لكل من قوموية العرب البعثيين القدماء، وقوموية CHP الكمالية، ومذهبية المملكة العربية السعودية الوهّابية، والإخوان المسلمين في مصر، وحزب الله في إيران.
رغم تميز قوموية مصطفى كمال بشكل ليس بعيداً عن العلم، ولا منزلقاً نحو المغامرة، بل يغلب عليها الجانب الوطني؛ إلا إنها سرعان ما فقدت جوهرها هذا، لتتحول إلى أداة أساسية بيد السلطة السياسية لتخدير القاعدة الجماهيرية الأولية. وفيما بعد عام 1980، تم مزج الإسلام بالمفهوم السُّنّي النقشبندي في محاولة لطرحه على شكل تركيبة تركية – إسلامية جديدة. كان لتأهيل وترويض القوموية التركية المفرطة (مثالية MHP) في الداخل، بل والأهم من ذلك إعاقة الحركة الكردية المحقِّقة لحملة مهمة من تعاظمها أكثر؛ الدور البارز في ذلك. سُعِي لعرقلة انضمام الشريحة الكردية العليا ذات التقاليد النقشبندية إلى حركة المقاومة الكردية، عبر إتْباعها بالنظام القائم.
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42