انزلاق سلطة الهيمنة في ظل الجمهورية التركية
01 مه 2014 پنج ش
الجمهوريةِ الديمقراطية، والتي كان ينبغي السيرُ عليها منذ البداية، هو السبيلُ الوحيدُ لاستتبابِ السِّلمِ الاجتماعيِّ
عبد الله أوجلان
كانت قد وُلِدَت فرصةُ تشييدِ صرحِ جمهوريةٍ ديمقراطيةٍ في الأناضولِ بُعَيدَ حربِ التحريرِ الوطنيةِ التي خاضَها الأتراكُ والكردُ في مستهلِّ عشرينياتِ القرنِ العشرين، وذلك على أنقاضِ الدولةِ العثمانيةِ وضمن إطارِ الميثاقِ الملليّ. وكانت قد خُطِيَت الخطواتُ الأوليةُ في هذا الاتجاهِ في كلٍّ من معاهدةِ أماسيا المُبرَمةِ في 1919 ومؤتمرَي أرضروم وسيواس. حيث كانت تُعكَسُ فيها بسطوعٍ جليٍّ المزايا الديمقراطيةُ للنظامِ الذي سيُؤَسَّسُ في أولِ دستورٍ (1921) للبرلمانِ التركيِّ الذي افتُتِحَ في 1920. هذا وكان قد أَجمَعَت الغالبيةُ الساحقةُ في البرلمانِ التركيِّ على "قانونِ الحكمِ الذاتيِّ الكردي" المُذَيَّلِ بتاريخِ 10 شباط 1922. كان مصطفى كمال قد تحدثَ في الاجتماعِ الصحفيِّ الذي عقدَه في إزميت مطلعَ عامِ 1924 عن أوسعِ آفاقِ "الاستقلالِ الذاتيّ"، أي عن شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ غيرِ المستندِ إلى الحدود، كنموذجِ حلٍّ معنيٍّ بالكرد. لكن، وفي الفترةِ التي شهدَت الوفاقَ مع الإنكليزِ ضمن نطاقِ الميثاقِ الملليِّ حول كردستان العراقِ الراهنة، بدأَ خطوُ الخطواتِ على سياقِ أخطرِ المؤامراتِ المُستهدِفةِ للكرد. وثنائيةُ "إما الجمهورية أو الموصل وكركوك"، التي فرضَها الإنكليزُ على رئاسةِ مصطفى كمال؛ إنما كانت تُشَكِّلُ المبادرةَ السياسيةَ الكامنةَ وراء تلك المؤامرة. وفي النتيجة، كان إنكارُ كردستان وإبادتُها قد باتَ من نصيبِ الجمهوريةِ التركية، مقابل التخلي عن الموصل وكركوك للإنكليز. وقد صَيَّرَت هذه الثنائيةُ الجمهوريةَ قناعاً مُمَوِّهاً لديكتاتوريةِ الحزبِ الواحدِ بوتيرةٍ عليا. وشُدَّ الحبلُ حول رقابِ الكردِ مع المؤامرةِ المُحاكةَ لزعامةِ الشيخ سعيد بتاريخ 15 شباط 1925. وإذ ما عالَجنا هذا الموضوعَ الذي توقفنا عنده بإسهابٍ مستفيضٍ في الفصولِ السابقةِ المعنية، وتناولناه على شكلِ أطروحاتٍ رئيسية؛ فبإمكانِنا تبيانُ التالي:
a) تماشياً مع تطورِ الجمهورية، تسارعَت وتيرةُ تنامي الجون تورك، أي بورجوازيةِ تركيا الفتاة، المدعومةِ من قِبَلِ الكوادرِ والمستثمِرين اليهود في عهدِ سلطةِ المشروطيةِ الثانيةِ لجمعيةِ الاتحادِ والترقي. فلَم تَكتَفِ بإبعادِ حلفائِها المشاركين في حربِ التحريرِ الوطنيةِ من كُرْدٍ وشيوعيين وإسلاميين قوميين عن السلطة، بل وأَقصَتهم أيضاً؛ مقتصرةً على اختيارِ الكوادرِ والمستثمِرين اليهودِ الصهاينةِ فقط حلفاءً لها مدعومين من إنكلترا. وهكذا اقتُسِمَت السلطةُ والاحتكارُ الاقتصاديُّ بين هاتَين القوتَين أساساً. وكان هذا النظامُ يعني بالنسبةِ إلى اليهودِ إسرائيلاً بِدئية. والدعمُ الإنكليزيُّ المُقَدَّمُ إلى النظامِ يندرجُ ضمن هذا النطاق. أما مصطفى كمال، الذي شُلَّ تأثيرُه ببَترِ أواصرِه مع حلفائِه الأصليين، وبحبكِ مختلفِ أنواعِ المؤامراتِ ومحاولاتِ الاغتيالِ ضده؛ فجُعِلَ محصوراً في المعبدِ الجديدِ داخل جانكايا كرمزٍ أُحيطَ بهالةٍ إلهية. كما حُسِمَت سيادةُ نظامِ التركياتيةِ البيضاء والحزبِ الواحدِ ذي الطابعِ الفاشيِّ البدئيّ، عقبَ القضاءِ على "الحزب التقدمي الجمهوري" (1925) و"الحزب الليبرالي الجمهوري" (1930) المتكونَين على يدِ الكوادرِ الأخرى المؤسِّسةِ للجمهورية. وهكذا هُدِرَت فرصةُ التشييدِ الديمقراطيِّ لصرحِ الجمهورية.
b) إنّ الكردَ الذين اعتَبَروا هذا النظامَ خيانةً لدورِهم الذي قاموا به، سواء في العهدِ العثمانيّ، أم في حربِ التحريرِ الوطنيةِ التي أفضَت إلى الجمهورية؛ قد وَجدوا أنفسَهم وجهاً لوجهٍ أمام مؤامرةِ 15 شباط 1925. فلَطالما فضَّلَ الكردُ تاريخياً العيشَ في وضعيةِ التحالفِ الأدنى إلى الشراكةِ مع الأتراكِ كلما قابلوهم، نظراً لتقاطعِ مصالحِهم الاستراتيجية. وقد قَبِلوا ورَضوا بنمطِ العيشِ هذا لتناسُبِه مع مصالحِهم، لا لأنه تمَّ غزوُهم أو أُرغِموا على الخنوعِ له بالإكراه. وما يؤكدُ صحةَ هذه الحقيقةِ هو كونُ معاركِ ملازكرد (1071) وجالديران (1514) والريدانية (1517) وحربِ التحريرِ الوطنيةِ (1919 1922) حروباً جرى خوضُها بفواصل زمنيةٍ تكادُ تمتدُّ لخمسةِ قرونٍ بأكملِها، وأُحرِزَ النصرُ فيها بشكلٍ مشتركٍ على خلفيةِ نفسِ الحججِ الاستراتيجيةِ تلك. أي إنّ العلاقاتِ التركيةَ الكرديةَ هي علاقاتٌ ما برحَت مرتكزةً إلى الرضا المتبادَلِ مدى التاريخ، وقائمةً على عماداتٍ دينيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ وثقافيةٍ استراتيجيةٍ حصينة. لكن، ومع حصارِ الكردِ بطوقِ الإنكارِ والإبادةِ من جانبٍ واحدٍ على حينِ غرّة بحبكِ المؤامرةِ التركياتيةِ البيضاء الفاشيةِ البِدئية، دخَلوا بذلك في وضعِ حمايةِ وجودِهم واللوذِ عنه. أي، محالٌ وصفُ هذا السياقِ حتى بالعصيانِ أو التمرد. حيث لَم يتمكنْ الكردُ من تَجَنُّبِ التعرضِ لمزيدٍ من السحقِ والقمعِ في وجهِ الهجومِ المُسَلَّطِ عليهم عبر نسجِ المؤامراتِ والدسائسِ من طرفٍ واحدٍ بغرضِ تجريدِهم من الهويةِ الأثنيةِ والوطنية، أي بهدفِ القضاءِ عليهم وتصفيتِهم. إنّ حملةَ الإنكارِ والإبادةِ المستمرةَ ضدّهم حتى عامِ 1938 جسدياً وفيزيائياً، غالباً ما نُفِّذَت بعدَ ذلك بأساليبِ الصهرِ والإذابة. وهكذا مُحِيَ الكردُ بطابعِهم الكرديِّ من جميعِ الساحاتِ العسكريةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والثقافية. بل وحتى الأسماءُ الكرديةُ حُظِرَت، فباتوا عاجزين عن التحدثِ بلغتِهم حتى في الأسواق. لقد كانت تُشادُ دولةٌ قوميةٌ نمطيةٌ قَوامُها المواطَنةُ المتجانسة. جليٌّ جلاءَ الشمسِ أنّ هذه الدولةَ التي تقتدي بنموذجِ بروسيا، كانت تُشَكِّلُ أيضاً النموذجَ البِدئيَّ للدولةِ الألمانيةِ الفاشيةِ التي تمَّ الوصولُ إليها مع هتلر. وضربَت بجذورِها في الأغوار، بحيث كادَ لَم يَبقَ فكرٌ أو نخبةٌ سياسيةٌ أو أوساطٌ يمينيةٌ أو يسارية، إسلاميةٌ أو ليبراليةٌ ظهرَت إلى الوسط، إلا وتأثرَت بهذا النموذجِ على مدى تاريخِ الجمهوريةِ برمتِه. وباقتضاب، بإمكاننا نعتُ هذه الفترةِ بمرحلةِ الجمهوريةِ الأولى أيضاً. وبانيها، أي مؤسِّسُها هو CHP الفاشيُّ البِدئيُّ السائدُ في أعوامِ الثلاثينيات.
c) بادرَ انقلابُ 12 أيلول 1980 العسكريُّ إلى تشييدِ الجمهوريةِ الثانيةِ المبنيةِ على "الإسلامِ التركيِّ القومويةِ التركيةِ الخضراء" عوضاً عن "القومويةِ التركيةِ البيضاء العلمانيةِ" التي استندَت إليها الجمهوريةُ الأولى؛ وذلك بسببِ المعارضةِ الشعبيةِ المتصاعدةِ داخلياً، وتغيُّرِ أجواءِ الشرقِ الأوسطِ خارجياً (الثورة الإسلامية الإيرانية، احتلال الاتحاد السوفييتيِّ لأفغانستان). وكانت مبادرةُ البناءِ هذه أيضاً تستهدفُ أساساً المعارضين الديمقراطيين والاشتراكيين الأتراكَ من جهة، والمعارضين القوميين الكردِ من الجهةِ الثانية. أما القومويون، أو بالأحرى الإسلاميون التبشيريون (الطريقة الموسوية الإسلامية التحديثية)؛ فاختارَتهم أرضيةً أيديولوجيةً لها. وفي واقعِ الأمر، فإنّ جميعَ الطرائقَ النورانيةَ والنقشبنديةَ والقادريةَ استحدَثَت نفسَها سريعاً، صائرةً بذلك مدرسةً إسلاميةً يهوديةً تركيةً عصريةً مُقتَبَسةً من التبشيريين المسيحيين اليهود الذين في أمريكا. وهذه المدرسةُ هي الدعامةُ الأيديولوجيةُ الأساسيةُ لفاشيةِ 12 أيلول. لقد كانت شُكِّلَت نسخةٌ تركيةٌ من هيمنةِ ريغان تاتشر كوول. وإِثْرَ تسويةِ أمرِ القوى الديمقراطيةِ والاشتراكيةِ أولاً ضمن هذا النظامِ الجديد، انصبّت الهجماتُ تماماً على الكردِ البادئين بالمقاومةِ تحت لواءِ PKK. وكأنّ سياقَ 1925 1938 يُعادُ تكرارُه في الجمهورية. أي إنّ فترةَ 1984 1998 في الجمهوريةِ الثانية، كانت تكراراً لفترةِ 1925 1938 في الجمهوريةِ الأولى. وأسَّسَ النظامُ نفسَه جيداً، مع تصفيةِ المُوالين لصياغةِ الحلِّ بالسُّبُلِ السياسية، والمُدركين لانسدادِ النظامِ وعُقمِه. بالتالي، آلَت الجمهوريةُ الثانيةُ أيضاً إلى الفاشية. إلا إنّ الخميرةَ الأيديولوجيةَ هذه المرة، كانت مائلةً إلى الخَضارِ بدلَ البَياض. وعليه، فقد كانت مشحونةً بفحوى جمهوريةٍ محافظةٍ أكثر تَشَدُّداً. أما ما كان من نصيبِ الكرد، فكانت سياسةَ الإنكارِ والإبادةِ عينَها. في حين كانت القوةُ المهيمنةُ العالميةُ المتسترةُ خلف سياسةِ الإنكارِ والإبادةِ المُطَبَّقةِ فيما بين 1925 1945، هي إنكلترا التي كانت تُعَدُّ أساساً القوةَ المهيمنةَ للنظامِ العالميِّ أيضاً. أما القوةُ المهيمنةُ العالميةُ المتسترةُ خلف الجمهوريةِ الثانية، فهي أمريكا التي كانت هي أيضاً قوةً مهيمنةً في النظامِ العالميّ. بالمقابل، فإنّ "الوضعَ الإشكاليَّ المُصان"، الذي أناطَ النظامُ المهيمنُ الكردَ به منذ عشرينياتِ القرنِ العشرين، استمرَّ دون تغييرٍ أو تعديلٍ حتى مطلعِ أعوامِ الألفَين.
d) شهِدَ سياقُ الجمهوريةِ الثانيةِ الذي ابتدأَ مع انقلابِ 1980 الانقطاعَ عن الجمهوريةِ الأولى، بعد المرورِ بالأزمةِ الخانقةِ المُعاشةِ في مستهلِّ سنواتِ الألفَين. فطرأَ الوهنُ على البنى الأيديولوجيةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ المتبقيةِ من الجمهوريةِ الأولى، بعدَ تكبُّدِها خسائراً جسيمةً خلال الأزمة. أما الاحتكاراتُ الأيديولوجيةُ والاقتصاديةُ للتبشريةِ الإسلاميةِ اليهودية، التي عُبِّدَت أرضيتُها قبلَ عامِ 1980 بدعمٍ أمريكيّ؛ فاستولَت على سلطةِ الدولةِ أيضاً متجسدةً في هيئةِ AKP (حزب العدالة والتنمية). وانكبَّت سريعاً على إنشاءِ المؤسساتِ الأيديولوجيةِ والبنى التحتيةِ للجمهوريةِ الثانية، في وجهِ مؤسساتِ وذهنيةِ الجمهوريةِ الأولى الخائرةِ القوى. أي إنّ ما يقفُ خلفَ الظاهرةِ المسماةِ بسلطةِ AKP، هو تحالفُ المحافظين الليبراليين الجددِ الأمريكيين مع احتكاراتِ رأسِ المالِ الأناضوليةِ المتمركزةِ على خطِّ قونيا قيصري، والمتضخمةِ بسرعة. وبمعنى من المعاني، فقد كانت بوابةُ الدولةِ قد فُتِحَت ثانيةً أمام المفهومِ الإسلامويِّ الذي أُقصِيَ عن السلطةِ منذ سنةِ 1923. لكنّ أبوابَ الدولةِ كانت لا تفتأُ مُقفَلةً بإحكامٍ في وجهِ الاشتراكيين والديمقراطيين الراديكاليين والمنادين بالهويةِ والحرياتِ الكرديةِ الجماعية.
وبأحدِ المعاني؛ فإنّ الدورَ الذي أداه CHP خلال الجمهوريةِ الأولى، قامَ به AKP في الجمهوريةِ الثانية، ولكنْ في غضونِ فترةٍ زمنيةٍ أقصر. هذا وبالمقدورِ الحديثُ دون أدنى شكٍّ عن انزلاقِ الهيمنةِ فيما بين احتكاراتِ رأسِ المالِ والسلطة. لا يوجدُ سُورُ الصين بالتأكيد بين كِلتا القوتَين المهيمنتَين. بل تتشاطران العديدَ من المؤسساتِ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ في الجمهورية. ومع ذلك، ثمة فوارقٌ هامة، وبالتالي نقاطُ خِلافٍ وتناقضٍ فيما بينهما. وتدورُ النزاعاتُ ظاهرياً حول محورِ العلمانيةِ الشريعة، مرموزاً إليها بالأكثر في موضوعِ النقاشِ حول الحجاب. أما جوهرياً، فهناك تناقضاتٌ وصراعاتٌ أيديولوجيةٌ وسياسيةٌ واقتصاديةٌ وثقافيةٌ جادةٌ فيما بين الفريقَين المهيمنَين. ولَئِنْ ربَطنا بين التناقضِ وخلفيتِه التاريخية، سنجدُ أنّ تناقضَ الطابعِ العثمانيِّ الجمهوريةِ مستمرٌّ في هيئةِ التناقضِ بين العثمانيين الجدد الجمهوريين العلمانيين. هذا وسيَكُونُ من الواقعيِّ أكثر توصيفُ AKP بالتمأسُسِ الأيديولوجيِّ والسياسيِّ والاقتصاديِّ والثقافيِّ لنظامِ 12 أيلول. فما يمثلُه CHP في الجمهوريةِ الأولى، يمثلُه AKP في جمهوريةِ 12 أيلول الثانية. كما إنّ AKP يرومُ إلى تتويجِ سلطتِه المهيمنةِ بِسَنِّ دستورِه هو (الذي هو في الحقيقةِ نسخةٌ ليبراليةٌ من دستورِ 12 أيلول). وهذا هو الهدفُ الرئيسيُّ لانتخاباتِ 2011.
e) لا تختلفُ السياسةُ الكرديةُ التي تزاولُها هيمنةُ AKP عن تلك المُزاوَلةِ في ظلِّ هيمنةِ CHP. ولَئِنْ كان كِلا الحزبَين عاجزَين عن ممارسةِ سياسةِ إنكارِ الكردِ وإبادتِهم كما في السابق، فإنّ السببَ وراء ذلك يكمنُ في الكفاحِ الذي يخوضُه PKK وغيرِ القابلِ للقمعِ أو السحق. وإلا، لو تُرِكَ الأمرُ لإنصافِ AKP، لَما تقاعَسَ أكثر من CHP عن إنكارِ الكردِ وإبادتِهم. بل وحتى إنه يُخلِّفُ CHP وراءَه في هذا الشأنِ من بعضِ النواحي، وبالأخصِّ بتعصبيتِه الأيديولوجيةِ الدينية (مثلما لوحظَ في مثالِ حزب الكونترا). وAKP هو القوةُ التحفيزيةُ الأساسيةُ الكائنةُ خلفَ التصفويةِ المُعاشةِ داخل PKK فيما بين 2002 2004. كما إنّ AKP يمثلُ أيضاً القوةَ الأساسيةَ التي سدّت الطريقَ أمام المحاولاتِ التي أُطلِقَت للبحثِ عن الحلِّ السياسيّ. فهو يُسخِّرُ ميولَ الحلِّ لدى الدولةِ في خدمةِ صعودِه المهيمن. فهو يُزيدُ من رعونةِ وتهشُّشِ مضمونِ هذه الميولِ من جهة، ويُسَخِّرُها في الدعايةِ لنفسِه من جهةٍ ثانية، ويُفرغُها من محتواها من الجهةِ الثالثة. وهو بجانبِه هذا أخطرُ بأضعافٍ مضاعفةٍ من كلٍّ من MHP وCHP الأكثر علانيةً في موقفِهما. هذا ويَستخدمُ دعاوى أرغنكون أيضاً لنفسِ الغرض. حيث تساوَمَ مع مخطِّطي الانقلاباتِ الهادفةِ إلى تصفيةِ الكرد، وتظاهَرَ بمحاكمةِ مُنفِّذيها الميدانيين بغية نيلِ الشرعية. أما تمرُّدُه على وصايةِ الجيش، أو تصرُّفُه بسلوكٍ ديمقراطيّ؛ فليسَ وارداً البتة. بل ولأولِ مرةٍ يُطَبَّقُ الوفاقُ والتساومُ مع الجيشِ بشأنِ قمعِ القضيةِ الكرديةِ على أرضِ الواقعِ بنحوٍ منظَّمٍ ومدروسٍ وشاملٍ أكثر في عهدِ .AKP أما "الحقوقُ الفرديةُ والثقافيةُ" التي هي إحدى المصطلحاتِ المفتاحِ في هذه السياسة، فهي تهدفُ في مضمونِها إلى تمويهِ مخططِ وممارساتِ تصفيةِ الهويةِ الكرديةِ الحرةِ والجماعيةِ تحت مُسَمّى حلِّ القضيةِ الكردية. فالحلُّ المتمثلُ في "الحقوقِ الفرديةِ والثقافية"، والذي طُرِحَ بعدَ إفراغِ تصفويةِ 2002 2004 من محتواها؛ قد أُدرِجَ في جدولِ الأعمالِ ضد الحلِّ المتجسدِ فيKCK، ورأى النورَ بدءاً من عامِ 2005 على يدِ الفريقِ القياديِّ في الجيش، وبدعمٍ من الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ والاتحادِ الأوروبيِّ والإداراتِ العراقيةِ العربيةِ والكرديةِ على السواء؛ علاوةً على إبرامِ تحالفٍ داعمٍ آخر، وإدراجِه في الأجندةِ مع كلٍّ من إيران وسوريا. وهكذا تمّ العبورُ إلى مرحلةٍ من "النضالِ والنفيرِ العامِّ ضد الإرهابِ على الأصعدةِ العسكريةِ والسياسيةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ والدبلوماسيةِ والنفسية" على حدِّ تعبيرِ رجب طيب أردوغان.
ما هو قائمٌ هنا هو حربٌ شنَّتها حكومةُ AKP بمستوياتٍ لَم تتجرأْ أيةُ حكومةٍ أخرى على التكفُّلِ بها، إلى جانبِ تشكيلِها شبكةَ الغلاديو الخاصّةَ بها أيضاً (عهدُ حربِ الغلاديو الخامسة). أي إنّ AKP لَم يتراجعْ عن الحرب، بل واظبَ عليها بعد مُضاعفةِ آفاقِها وأبعادِها، وتجذيرِها أكثرَ فأكثر. وAKP هو حزبُ دولةٍ أكثر من كلِّ أحزابِ الدولةِ السابقةِ له، وحكومتُه أيضاً حكومةُ "حربٍ خاصةٍ" أكثر من كلِّ الحكوماتِ السابقةِ لها. إنه يلهثُ وراء خلقِ تنظيمٍ إسلاميٍّ للكونترا، بحيث يَكُونُ أشملَ نطاقاً من تنظيمِ حزب الله القاتلِ التابعِ لمنظمةِ JİTEM. وهو يُسخِّرُ أعضاءَ العديدِ من الجمعياتِ الطرائقيةِ يتصدرُهم الأئمةُ الكوادرُ التابعون لدائرةِ الشؤونِ الدينية في خدمةِ مآربِه المتعددةِ النواحي، وذلك على شكلِ تنظيمٍ سقفيٍّ جامعٍ من طرازِ "حماس". كما يوظِّفُ إشرافَه على الاقتصادِ في خدمةِ الحربِ الخاصة. إضافةً إلى تقييمِه ثقافةَ الحياةِ الدينيةِ وفق منظورِ المآربِ عينِها، وتفعيلِ الحقلِ الدبلوماسيِّ في نفسِ المنحى بالأغلب. باختصار؛ إنّ القضاءَ على حركةِ الحريةِ الكرديةِ يُعَدُّ محورَ فعالياتِ الحكومةِ وأنشطتِها.
لا تنحصرُ حكومةُ AKP فقط في الاستيلاءِ التدريجيِّ على سلطةِ الدولة، بل وتُحصِّنُها أيضاً بطابعِ الهيمنة. إنها تودُّ الاستمرارَ بالسلطةِ بعدَ تصييرِها ميهمنة، تماماً مثلما كان الأمرُ في عهدِ تأسيسِ الجمهورية. وكيفما أنّ حركةَ التصفيةِ المُسَلَّطةَ على الكردِ في فترةِ التأسيسِ أدت إلى بروزِ هيمنةِ الفاشيةِ التركياتيةِ البيضاء، ففي فترةِ انحلالِ وتفكُّكِ الفاشيةِ أيضاً يُعادُ إنشاءُ الهيمنةِ عينِها، عبر استهدافِ حركةِ الهويةِ الحرةِ الكردية. والقضاءُ على الكردِ يتصدرُ لائحةَ العواملِ التي تُبعِدُ الجمهوريةَ عن كافةِ مضامينِها التنويريةِ والديمقراطية. ومثلما أنّ تصفيةَ الكردِ مؤثرٌ أوليٌّ في تصعيدِ كافةِ المجرياتِ والأحداثِ السلبيةِ داخل الجمهورية، فعكسُ ذلك أيضاً صحيح. فتقدُّمُ الجمهوريةِ على أرضيةٍ إيجابيةٍ تتقدمُها خطوةُ الدمقرطةِ أيضاً معنيٌّ بنيلِ الكردِ حريتَهم. وتاريخُ الجمهوريةِ المُعَمِّرُ تسعينَ عاماً بأكملِه، قد أظهَرَ هذه الحقيقةَ إلى النورِ بكلِّ سطوع.
f) ستغدو الجمهوريةُ التركيةُ أمام مفترقِ طرقٍ في القريبِ المنظور، وبكلِّ ما للكلمةِ من معان. فالجمهوريةُ التي وُجِّهَت في مرحلةِ التأسيسِ صوبَ الحربِ المناوِئةِ للكردِ على يدِ الإنكليز، سوف تَجِدُ نفسَها مع الأسفِ الشديدِ في خضمِّ مأزقٍ خانقٍ أشدّ حِدّةً، من خلال صراعِها المناوئِ للكرد، والذي يُوَجَّه ثانيةً من طرفِ إنكلترا ذاتِها بِمَعِيّةِ حليفتِها الممتازةِ أمريكا. وبالأصل، فقد مرّت العقودُ الثلاثةُ الأخيرةُ من سياقِ الجمهوريةِ الثانيةِ مشحونةً بالتخبطِ الفجيعِ في معمعانِ هذا المأزق. أي إنّ ما جرى لَم يَكُ "حرباً منخفضةَ المستوى" وحسب، بل وكان يجسدُ تغلغُلَها حتى أدقِّ خلايا القِيَمِ الاجتماعية، وتحَلُّلَها فيها. لقد تمَّ عيشُ تفسخٍ وتناثرٍ اجتماعيٍّ أشدَّ وطأةً بكثير من الانهيارِ أو التحلحل. ذلك أنّ الإرادةَ التي تنسقُ ذاتَها ميدانياً على طرازِ الغلاديو، قد تمثلُ أيَّ نظامٍ كان؛ ولكنْ من المستحيلِ أنْ تمثلَ نظاماً جمهورياً. والإصرارُ على الحربِ لا يُمكِنُ إلا أنْ يَكُونَ حملةً أخيرةً تُطلقُها الغلاديو. ولأجلِ تحاشيها، يكفي إخراجُها من الغرفةِ المُحَصَّنةِ (المربَّع الآمن kozmik oda) إلى النور. الطريقُ الثاني البائنُ في المفترقِ الذي ينتصبُ أمام الجمهورية، هي الطريقُ التي سيجري قطعُها بتعبيدِ أرضيةِ الجمهوريةِ ثانيةً بالوحدةِ الديمقراطيةِ التي شهدَتها حربُ التحريرِ الوطنية. ذلك أنّ ما جعلَ الجمهوريةَ جمهوريةً حقة، هو التحالفُ السائدُ في الحربِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ فيما بين عامَي 1919 1922. والطعنُ في هذا التحالفِ المناهِضِ للهيمنة، قد أدى في نهايةِ المآلِ إلى ضياعِ فرصةِ الجمهوريةِ الديمقراطية، وتأسيسِ السلطاتِ التآمريةِ والفاشيةِ البدئيةِ والانقلابيةِ الغلاديويةِ والعصاباتيةِ بدلاً منها. ولكن، جليٌّ جلاءَ النهارِ استحالةُ أنْ يَكُونَ هذا الطريق، الذي جُرِّبَ مراتٍ ومرات، وباءَ بالفشلِ في كلِّ مرة؛ هو الطريقُ الحقيقيُّ أمام الجمهورية. في حين إنّ طريقَ الجمهوريةِ الديمقراطية، والتي كان ينبغي السيرُ عليها منذ البداية، هو السبيلُ الوحيدُ لاستتبابِ السِّلمِ الاجتماعيِّ وحلِّ القضايا العالقةِ في المرحلةِ المقبلة. وKCK ليس عائقاً، بل هو فرصةُ حلٍّ نفسيةٌ على هذه الدربِ التي تُعتَبَرُ آخِرَ فرصةٍ أمام AKP وحكومتِه.
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42