الفن والادب والجمال
31 آگوس 2014 یکش
يلعب الفن والعلم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة، أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها...
عبدالله اوجلان
يجب التحدث، وبأهمية بالغة، عن القمع والتبعية التي طبقها العجائز الخبيرون في المجتمع الهرمي على الشبان اليافعين. فهذا الموضوع المدرَج في العلوم الأدبية المسماة بـ"الجيرونتوقراطيا Jerontokrasi"*، إنما هو حقيقة واقعة. لكن، وكيفما تعزِّز الخبرةُ صاحبَها العجوز من جهة، فإنَّ كِبَر سنه يُضعِفه تدريجياً من الجهة الثانية. فرضت هذه الخاصيات على العجائز المسنين أن يُسخِّروا الشبان في خدمتهم. فقاموا بغسل أدمغتهم ليطوروا هذه الآلية، ويربطوا كل حركات الشبان بأنفسهم. تستمد البطرياركية قوة عظمى من هذه الظاهرة. فهم يستثمرون القوى الجسدية الغضة، ليحققوا من خلالها آمالهم وطموحاتهم. استمرت هذه التبعية المحيقة بالشبان حتى راهننا، مع تجذرها المتواصل القطة التي تموي دائماً في قعر بئر بلا قاع. حيث يستأهلها صاحبها ويدجِّنها جيداً بتغذيتها على بقايا الطعام. قد يكون تشبيهاً فظاً، لكن، ثمة ضرورة ساطعة لإبداء مساعي علمية وأدبية متعددة الاتجاهات، بغرض استيعاب مدى عمق العبودية القائمة. لقد أُسِّس مجتمع جنسوي إلى أبعد الحدود. والفظاظة الحقيقية تكمن في الموقف التالي: بينما يُعتَبَر اغتصاب الرجل للمرأة عنوة بأنه بطولة، وبينما يتلذذ الرجل بذلك ويغتبط لآخر درجةبيد أن العمق الذهني في المجتمعات الشرق أوسطية، يمتد حتى العصر الميثولوجي. ذلك أنها استخدمت مأثورات الرهبان والأدباء السومريين أمهر خالقي الميثولوجيا بأشكالها المطوَّرة والمعدَّلة في الأديان التوحيدية الثلاثة. نحن نعرف أن سيدنا إبراهيم هو مؤسس الدين التوحيدي. وقد ترعرع داخل مَلَكيات "نمرود" في السلالة البابلية. فالكل يعرف أن أباه الموظف الذي لا تزال ذكراه نابضة في أورفا وهو واقف إلى جانب نمرود كان حارساً في مجمَّع الآلهة الملوك (Panteon)، وأنه شهد تحولاً ذهنياً كمحصلة للفعل وردة الفعل التي مر بها. إذن، والحال هذه، كيف سنستطيع فهم الدين الإبراهيمي دون معرفة مجمَّع آلهة نمرود؟ فحتى أكفأ الأساتذة المختصين بعلم اللاهوت يقولون في هذا الصدد: "حطم إبراهيم الأوثان بالفأس. وغضب نمرود، وقال: من الذي حطمها؟ فأجاب إبراهيم: الوثن الكبير هو الذي حطمها. فيقول نمرود: وكيف يحطمها وهو وثن جامد لا روح فيه؟ فيرد عليه: أوَليس الوثن إلهاً؟"لا يزال النقاش على الفرق بين الميثولوجيا والدين معلقاً على الرف في الأفكار الشرق أوسطية. بيد أن الميثولوجيا بذاتها لم تفسَّر بعد. ويُكتَفى بالقول بأنها مجرد أقاويل وسفسطائيات، لتُترَك جانباً؛ رغم أن هذا الطراز التفكيري احتل ولا يزال ذاكرة المجتمعات على مر آلاف السنين، وغدا الشكل الأساسي للتفكير على طولها. بل وأثَّر في كافة الأشكال الدينية والأدبية اللاحقة له، كسرد شعري للتعبير الرمزي عن الحياة المادية للمجتمعات. ما من دين أو أدب إلا واستنهل مصطلحاته من الميثولوجيا. أما ترْكُ الميثولوجيا جانباً وإهمالها باعتبارها بدعة أسطورية أو ملحمية، فلا يعني سوى حرمان الذات من أغنى مصادر الثقافة.لا يمكن الاستخفاف بنصيب الدوغمائية الدينية في هزل الأدب ووهنه. فبينما كان بمقدور الأدب إحراز أشواط عظمى من التطور ارتباطاً بالمصدر الميثولوجي؛ قام الحظر ذاته بتجفيف هذا الميدان أيضاً. إن "الحرام" والحظر حرّم الإنسانية من أغنى مواردها. أما أوروبا، فقد بدأت بإبراز أولى كلاسيكياتها في هذه الأعوام. وأُسقِطَت الآداب إلى مستوى ابتكار القصائد وتنظيمها بشأن السلاطين وسرد حكاياتهم وإغداقهم بالمديح والثناء المطول. الجانب المؤسف والمؤلم في الأمر، هو أن الغربيين وضعوا أياديهم في راهننا على مسألة تحويل الواقع الديني والميثولوجي للشرق الأوسط إلى آداب، واستحوذوا عليها. فحتى مسألة كيفية القيام بالآداب وتكوينها، هي مشكلة حقيقية بحد ذاتها.لا تزال ثقافة المرأة الأم مؤثرة كمركز حضاري في الفترة المتراوحة ما بين 4000 2000ق.م لدى السومريين. وتتمتع بثقل يوازي ثقل الرجل. وقد انعكس ثقلها هذا على جميع الوثائق الميثولوجية المتعلقة بتلك الحقبة. فمعابد الإلهات الإناث منتشرة في كل مكان. ولم تتطور بعد قوة التوبيخ والتعييب المحيطة بالمرأة. بل وتُسرَد ممارسة الجنس بشكل خاص كعملية مقدسة. دعك من التوبيخ والتعييب، بل ثمة سرد أدبي لا يمكن مصادفته حتى في أروع القصص الجنسية والشَّبَقيّة. كل تصرف أو عملية معنية بممارسة الجنس، تجد معناها كجماليات الحياة وقيمها الثمينة. وجنسية المرأة تلقى جاذبية عظمى وتبجيلاً خارقاً. لم يكن آنذاك ثمة أي تلويم أو تعييب خاص بالمرأة على نحو طراز الحياة التي شكلت الثورة المضادة الكبرى لها فيما بعد. كان جسد المرأة موضع مدح وتقدير على الدوام. ومراسيم الزواج المقدس الحالية تعود إلى تلك الحقبة، وإنْ كانت أصبحت بشكل محرَّف ومشوَّه (عملية تقبيح الرجل لها). تصوِّر العديد من النقاط المعنية بالشكل والمضمون في ملاحم "ممه آلان" و"مم وزين" و"درويش عبدي" التي لا تزال تُذكَر اليوم في كردستان المنزلة الرفيعة والمرموقة للمرأة. وبالإمكان القول أنه يمكن العودة بأصل هذه الملاحم إلى فترة أعوام 4000ق.م.. وقد حُدَّ من نطاق اللغة والثقافة الكردية مع الزمن بتأثير من القمع السياسي، بعد أن كانت أثمرت العديد من المأثورات الأدبية (أحمد خاني، مم وزين) في العصور الوسطى. وحُوِّلَت الكردياتية، كلغة وثقافة، إلى حالة تكتنفها الظنون والريبة. وغدت موضوع تهمة وإجرام؛ لتتحول بعدها إلى "علم الجريمة" بحد ذاته. وبقي الكردي وجهاً لوجه أمام أشد أشكال ممارسات الجرم والسجن إفراطاً ومغالاة على يد البورجوازية. حيث أُقحِمَت الظاهرة الكردية والمشاكل المتعلقة بها في صنف أخطر الجرائم وأشنعها. ومورست حملة الإذابة والتغريب عن الذات والارتباط بالثقافة واللغة الحاكمة بكل حِدّتها على وجود الظاهرة الكردية برمته، وبما يفوق أبعاد لغتها وثقافتها، في الدول القومية الثلاث (التركية والعربية والفارسية). وفُرِض الحظر على اللغة الكردية في جميع المناهج التعليمية، بما فيها التعليم باللغة الأم. لم يَعُدْ ثمة خيار سوى تعلم الحداثة في مدارس الدولة المهيمنة، وهذا فقط من أجل المقتدرين مادياً. أُخرِج الكرد ولغتهم الكردية من دائرة الحداثة، من جميع النواحي. وحتى إصدار أبسط أشكال الموسيقى أو الصحف أو الكتب الكردية، بات متهماً بـ"الكردياتية"، ليُدرَج في لائحة الجرم السياسي. بيد أنهم (الحكام) يطبقون في لغاتهم قوموية تخلِّف هتلر وراءها، بل ولا تمر حتى من جانب نظريات "الشعب الأسمى". لقد كان قول "الأمة النجيبة" عنوان العرب. وكانت التركياتية ذريعة السعادة وباعثها. والانتماء الفارسي كان أعظم نبل تاريخي. أما العواطف القوموية التي أضرمت الرأسمالية جذوتها، فكانت حُوِّلت إلى مخدر يواري كل أشكال التخلف. فإقطاعية العصور الوسطى لم تفلح في محو خاصيات الكرد كقوم (رغم كل سلبياتها). بل، وخلافاً لذلك، عبَّروا عن وجودهم في العديد من التطورات السياسية والثقافية والأدبية، وإنْ بشكل محدود. يمكن الإشادة بـ"شرفنامة" (1596) و"مم وزين" (أعوام 1690) كمثال على مدى تطور ورقي اللغة الكردية والخاصيات الكردية كقوم. لأول مرة نشاهد حدوث الانفصال عن المجموعات العشائرية هنا. لم تؤلَّف أو تُدوَّن بعدْ آداب هذا الوسط الذي مر به التمايز الكردي وتطور. لكن، من الضروري وبكل تأكيد تأليفها وتدوينها. بل إنها حقاً مرحلة تستوجب استنفار كل الطاقات الروائية الأدبية، واللجوء إلى العديد من فروعها، كاليوتوبيا والمأساة والدراما والقصة والسينما وغيرها. المسألة هي أنه ثمة بذرة متناثرة. ومن غير المعلوم تماماً لدى تناثرها، أهي فاسدة أم لا؟ أستنمو وتزدهر أم لا؟ فقط وفقط، ثمة أمل معقود عليها. وكأنه يسود الخنوع للمرحلة كالخنوع للقدر. وكأني به يقال: "الأمل خبز الفقير، فليأكله حتى يشبع".وقد أثمرت اللغة الكردية وثقافتها العديد من المأثورات الأدبية في هذه الحقبة من الزمن، كملحمة مم وزين على سبيل المثال. كما استمر التفوق الاجتماعي والثقافي للكرد آنذاك لكن حساباتكم لن تُجدي نفعاً. ربما تجهلون أنكم تقومون بحسابات على السلطة، وتحاربون لأجلها، حسب ما تزعمون. لكن شخصياتكم فيما يخص موضوع السلطة مبعثرة ومتراخية أكثر من الطين. ولو استندتم إليها يوماً واحداً فقط، لتناثرتم. لقد ناشدتُكم دوماً بالتحلي بالتربية والأدب، وإلا لافتقرتم إلى الأصدقاء والمؤازرين والمساعدين. وما سينتظركم حينها، إما خيانة منحطة، أو موت محزن، أو حالة من المشاكل الدائمة؛ مثلما فعلتم على الدوام. كل هذه البدائل ليست بطريق حسنة. تشرح اللُّقى واللوحات المدوَّنة هذه الحقيقة بلغة شعرية رائعة وملفتة للأنظار. فملحمة إينانا، إلهة مدينة أوروك، والبادئة في تأسيس مدينة الدولة السومرية؛ ملفتة للأنظار جداً. تتطرق هذه الملحمة، التي تصوِّر تلك الحقبة التي لا تزال فيها قوة المرأة والقوة الأبوية البطرياركية متكافئتين، إلى ذكريات تلك المرحلة المشحونة بالاحتدامات الضارية للغاية.يمكن القول بأن أعظم ثورة شهدها التاريخ حصلت ضمن نطاق ثقافة هذه المدينة. فالتصورات المشيرة إلى صراع إينانا وأنكي، إنما تعكس لنا الصراع القائم بين مجتمع المرأة الأم والمجتمع الأبوي الذكوري، بلغة شعرية بارعة حقاً. وملحمة كلكامش تتطرق إلى أول وأروع نموذج أصلي لوحظ في كل مجتمع آنذاك، في عصر البطولة والأبطال. كما نلاحظ فيها أيضاً الصراعات الأولى القائمة بين المدنيين والبرابرة الوحشيين. والمرأة لا تزال فيها بعيدة عن الهزيمة والفشل. لكن الرجل القوي ما برح يُعَوِّد المجتمع ويُمَرِّنُه على سلطته خطوة خطوة، عبر حاشيته العسكرية. إنه يتجه نحو إشراقة المجتمع الحضاري وبزوغ فجره، عبر تصوراته الأيديولوجية ومؤسساته الدينية وقصوره الفخمة وسلالاته الأولى. فإينانا هنا تدافع عن معتقداتها بأن المرأة صاحبة الحضارة، وتتحدى بكل قوتها الإله أنكي (العنصر الممثل لنظام السلطة الأبوية المتصاعدة لدى السومريين). وتسرد إينانا بلغة شعرية بارعة كيف أنها تملك الـ"ما"ءات المائة والأربع (وهي الاكتشافات والمخترعات والمصطلحات الحضارية لتلك الحقبة)، وأن أنكي سرقها منها بالحيلة والمكر، وأنه عليه ردها إليها. يشير هذا السرد الميثولوجي الممتد حتى أعوام 3000ق.م، بشكل ملفت للنظر، إلى دور المرأة فيما بعد الحضارة السومرية. هذا وتعود إينانا في جذورها إلى نينهورساغ، إلهة الجبل القديمة. وكلمة "نينهورساغ" من ناحية علم الصرف والاشتقاق تكون كما يلي: "نين = Nin = إلهة"، "هورhur = kur = = الجبل"، و"ساغ = sag = منطقة". أي أن كلمة نينهورساغ تعني "إلهة منطقة الجبل". وبما أنَّ سلسلة جبال زاغروس وحوافها تأتي على البال بمجرد لفظ كلمة "الجبل" في منطقة ميزوبوتاميا السفلى، فهذا يشير إلى أن ثقافة الإلهة الأنثى قد نزلت من المنطقة الجبلية نحو السهول المنخفضة.إن اعتبار ظواهر الكتابة، الرياضيات، العلوم الأخرى، مختلف الحِرَف، العَمار، والفن بكافة فروعه، والتي تطورت بالترافق مع التمدن؛ بإنها ضرورة من ضرورات النظام العبودي، إنما هو خطأ فادح. يكمن الخطأ الحقيقي المتجذر في آراء وأفكار العديد من التيارات، بما فيها الماركسية أيضاً، في اعتبارها تلك الظواهر كرافعات على طريق تقدم العبودية؛ بل إنها أي تلك التيارات تبرهن بذلك على أن العلم والفن لا ينفصلان عن السلطة. ذلك أن أولى القيم التي تتحكم بها سلطة الدولة وتمسك بزمامها في يدها، هي العلم والفن. فهي بحاجة ماسة وملحّة لذلك لغرضين: إعاقة تقدمهما الحر أولاً، وتسخيرهما في ضوء مصالحها ثانياً. إذن، دعك من أن يكون تطور العلم والفن من ثمار النظام العبودي، بل إنه يشير إلى كونه يشكل عائقاً حقيقياً على دربه. فالاكتشافات والاختراعات الحاصلة في الأعوام التي لم تنشأ فيها الدولة العبودية، أي ما بين 6000ق.م 4000ق.م، لا يمكن مقايستها إلا بتلك الحاصلة فيما بين أعوام 1600م و1900م. أي أن الاختراعات كانت محدودة للغاية في الفترة الوسطى ما بينهما، طيلة 5000 عاماً. ومثلما هو معلوم، فالعلوم البارزة فيما بين القرنين السابع عشر والعشرين (1600م 1900م)، هي بالأرجح من أثر الأفراد. أما ما قامت به الدولة، فهو إدراجها في دائرة احتكارها، مثلما يحصل في كل مرة. في الحقيقة، ما جرى فعله باسم "فن السياسة والعسكرية"، لم يكن سوى فن القتل المنتظم للإنسان، وقمعه، وتسخيره في كافة الأعمال الاستعمارية، على اختلافها. أما الفنون التي احتُمِي بها أثناء إعداد الأرضية المشروعة لذاك الفن، فكانت أساساً: الميثولوجيا، الملاحم، مضمون الكتب المقدسة نسبياً، التماثيل، الرسوم، الموسيقا، وغيرها من العديد من النشاطات. لا شك في أن ولادة هذه الفنون ليست من ابتكار طبقة الأسياد. لكن الحقيقة الأخرى المعروفة يقيناً، هي المهارة والكفاءة العظمى التي أبدتها تلك الطبقة في أقلمة تلك الفنون وفق مصالحها هي. إنه فن تغيير ذهنية الإنسان من جذورها، بالانتفاع من وسائل الحياة المادية والمعنوية الأولية، التي كوَّنتها الإنسانية بجهودها العظيمة وكدحها المرير، طيلة آلاف من السنين. من هذه الزاوية بالذات، فإن لفت الأنظار ولو بتكرار إلى الشروحات والتفسيرات الخاطئة الجارية، بل وباسم الحرية والمساواة؛ إنما يُعتَبر واجباً إنسانياً يهدف إلى الحرية والمساواة، ويتوجب تأديته في كل زمان.. ولأول مرة أوجدوا فن القتل المنظم للإنسان، والذي يخلو من أي جانب طبيعي، داخل المجتمع الإنساني. واتخذوا من الألاعيب والمراسيم المعتمدة على قتل الناس أساساً لهم، حتى في أوقات لهوهم ولعبهم. هذا وتفوقوا بمهارة في حبس النساء داخل الأقفاص. وقاموا بطلاء كل أحلام الأطفال الطبيعية بالنشاء. وأكرهوا الناس على اللجوء إلى أعماق البراري وذرى الجبال وقلب الغابات الموحشة، باسم الحرية. أما العبيد، فقد حُوِّلوا إلى أداة إنتاج اقتصادية، ليس بكدحهم فحسب، بل وبأبدانهم بكل ما فيها. وألَّفوا من الذكاء التحليلي ميثولوجيا مهيبة تعتمد على الكذب والزيف. وكأن العنف المحض الذي يمارسه الأسياد لا يكفي، فجعلَ الرهبان إضافة إلى ذلك من القمع والاستعمار المعنوي لعالَم الآلهة، عنصر عقيدة وعبادة أساسي؛ ونقشوه في ذهن البشرية. واتخذوا من إعلاء الأخلاق والفن من شأنهم وقدرهم هم، وإضفائهما صفة الجمال عليهم باستمرار؛ عملاً أولياً. وعوضاً عن مفهوم الكون الحي المؤلف من البيئة الطبيعية والمجتمع البشري، وطدوا مفهوم آلهة السماء وآلهة الأرض، التي لا روح لها، والتي تحاسِب وتعاقِب. وبينما يستحيل التفكير بالعَوَز والفاقة لأجل زمرة الأسياد، عانت المجموعات الأخرى من التصدع والتخدش باستمرار، بسبب المجاعة وتفشي الأمراض. . ربما كانت ذهنية السلطة التي خلقتها الأيديولوجيا، هي أعظم كذَّاب ومخادع. أما آلية فن السياسة في المجتمع، فهي على النحو المذكور، باعتقاد المرء أنه صاحب الدولة، وقناعته بضرورة خدمتها؛ والتي تمنح بمضمونها هذا أرقى أشكال الديماغوجيات السياسية. فالسياسة ليست كما يُظَن وسيلة الاقتدار والتسلط، بل إنها أداة لحماية السلطة، ونشرها وترسيخهايبذل النظام السائد محاولات دؤوبة مضنية وخارقة في سبيل إطالة عمره، عبر العلم والفن. ليس كما يُظَن من أجل تطوير العلم والفن (بما فيهما التقنية أيضاً)، بل في سبيل مواصلة حالته الفانية بقوتهما المتطورة بشكل مذهل. إنه يستذكرنا بالعناية المشددة التي يُلجَأ إليها بوساطة كل الوسائل العلمية والتقنية، بغرض معالجة مريض أصبح على شفا حفرة من الموت. حيث يلعب الفن والعلم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة، أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها.اليوتوبيات النهضوية مشاعية، لا رأسمالية. إذ ما من بحث مقنع يشير إلى أن النظام الاجتماعي الجديد البارز هو الرأسمالية. فالحياة الدارجة في الأديرة هي المشاعية. والروح السائدة في المدن الحديثة العهد، أقرب إلى الديمقراطية. كذلك، فرجالات العلم المعنيون بالفلسفة والآداب، والمنهمكون بالفن؛ كلهم أناس كادحون يقتطعون لقمة عيشهم بصعوبة ومشقة. أما المنشغلون بتراكم رأس المال، فهم محدودون، ويستحقون إلحاقهم بالقضاء، بسبب مُراباتهم (عيشهم على الربا) خصيصاً؛ باعتبارهم فئة قد جمعت النقمة الاجتماعية عليها. تُشكِّل الأرستقراطية الإقطاعية، بالاشتراك مع الطبقات الشعبية كقومية ناشئة حديثاً، نظاماً مختلطاً حتى فترة قيام الثورة الصناعية.أما تدخل الرأسمالية في العلم والفن والاستفراد بهما، فيسفر عن نتائج أكثر ترويعاً. حيث بات العلم والفن عموماً آلة بيد سلطة الدولة. ومع الرأسمالية تصل مسألة السلطة والمعرفة أبعاداً لا نظير لها بقوة الثورة العلمية. يؤول احتكار العلم والفن إلى بروز قوة فظيعة من الهيمنة والاستعمار، بحيث تزوِّد بإمكانية تشكيل الفرد والانتفاع منها كما تشاء. وهي لا تقف عند حد تحويل البنية الذهنية والبراديغمائيات الأساسية بما يتوافق وعالَمها الخاص؛ بل وتقوم بصنع الفرد صاحب "نظارة الحصان والقلب الصفيحة". وبهذه العيون والأفئدة يُبلَغ بالناس إلى موجودات في حالة قصوى من الضحالة والسطحية، المنفعية، الأنانية، اللامبالاة، الظلم، اللاإحساس، التجريد، والآلية الروبوتية.تضع الرأسماليةُ الفرقَ الأكبر بالنسبة لمفهوم الجنسية في النظام، بحيث يكاد لا يبقى أي عضو في المرأة إلا ويُبَضَّع. وهي تقوم بزخرفته بغطاء من الفن، عبر الآداب والروايات. لكن المرأة تُقحَم في وضعية تجتر فيها النصيب الأعظمي من وطأة عبء النظام الثقيلة، كآلية أساسية في هذه الفنون. فبينما يُحدَّد الأجر لكل عمل، أياً كان؛ نجد أن أكثر الأعمال وطأة، أي الحمل، تنشئة الطفل، ومختلف أنواع العمل المنزلية؛ تكون بلا أجر. بل ولا أجر لأن تكون المرأة عبدة شهوات الرجل الجنسية. فحتى الأجر المتعاطى في بيوت الدعارة، لا يقابله إبداء أية قيمة للمرأة في المنازل الخاصة. إن الآليات الدفاعية، الفن، العلم والتقنية عاجزة عن لعب دورها بسبب الاحتكار المفرط للسلطة الرسمية إياها؛ رغم أنه من الواجب أن تؤدي وظائفها أكثر من غيرها في مثل هذه المراحل داخل أنظمة المجتمع التاريخية. وكلما انهار التعاضد المشاعي، كلما خارت قوة الدفاع التقليدي، لتتخلى عن مكانها للعنف الفردي والعنف العصاباتي. فمقابل إرهاب السلطة، يؤجَّج إرهاب القبيلة والعشيرةتشيد النهضة في فحواها بإعادة تأسيس الأواصر المقطوعة بين العقل والطبيعة. لقد قامت النهضة بثورتها الذهنية على خلفية حيوية الطبيعة وخلاقيتها وعطائها وقدسيتها. وعملت بالمبدأ "كل شيء موجود في الطبيعة" كمعتقد أساس لها. وصوَّرت جماليات الطبيعة على نحو أمثل عبر الفن. وفتحت آفاق الطبيعة بالتوجه العلمي نحوها. واتخذت الإنسان أساساً لها، فاعتبرت تعريف حقيقته برمتها من وظائف العلم والفن. هذا التغيير في الذهنية هو الذي ولَّد العصر الحديث. وعلى خلاف ما يُعتقَد، فالمجتمع الرأسمالي لم يكن نتيجة طبيعية لهذه المرحلة، بل كان محرِّفها ومضلِّلها، ولعب دوره في تقهقرها وجَزْرها. فالإدارات المستعمِرة للإنسان طُوِّرت بالتوازي مع استغلال الطبيعة.هذا ويشكل العلم والفن الأرضية الذهنية الأساسية التي سنستند إليها في تخطي مجتمع الفوضى. وبما أن التعليم الرسمي المفروض بدءاً من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية يتخذ من تكوين الإنسان التابع للدولة والهرمية، والمغترب عن الفرد والمجتمع والبيئة، أساساً له من حيث الشكل والمضمون؛ فمن الضروري تجاوز مثل هذه الأفخاخ التعليمية والتدريبية، وتَقَبُّل وهضم وإحياء مفهوم (بارديغما) علمي وفني جديد؛ بحيث يُعرِّف الإنسان والمجتمع على حقيقتهما وواقعهما التاريخي، وينقلهما إلى المستقبل الواعد مع صونه لحرية اللحظة على خلفية ثورة ذهنية حقيقية قبل كل شيء. هذا ويجب نشر النماذج الجديدة من الأكاديميات والمدارس العلمية، وفقاً للحاجة. . أما ترْكُ الميثولوجيا جانباً وإهمالها باعتبارها بدعة أسطورية أو ملحمية، فلا يعني سوى حرمان الذات من أغنى مصادر الثقافة. لا يمكن القيام بتحليل سليم للدين والأدب والفن، ما لم تُولَ القيمة السامية الحقة للميثولوجيا كطراز تفكير خاص بمرحلة طفولة البشرية. نحن بحاجة لإنعاش الميثولوجيا، لا لدحضها وإنكارها. عليَّ التطرق إلى مشكلة أخرى خاصة بالأسلوب. يقوم الرهبان الغربيون العصريون (المعنيون بالآداب والفلسفة والعلم ومختلف فروع الفن) بتقسيم تكامُل ظاهرةٍ أو حدثٍ أو مرحلة ما، أثناء دراستهم إياها. ويؤمنون باستحالة البحث والتدقيق دون إسقاطها إلى حالة جثة التشريح. هذا ما يذكِّرني دائماً بأسلوب الرهبان السومريين في معرفة مصير الإنسان من حركة النجوم في السماء. حسب رأيي، فالنتيجة هي عينها، مهما كان أحد هذين الأسلوبين علمياً والآخر ميثولوجياً. بل وإني على قناعة تامة بأن رهباننا العصريين في منزلة أدنىلمشكلة ليست أن نتعلم كثيراً، بل أن نحيا حسب ما نتعلمه. يتمثل مضمون التواجد المجتمعي في إدامة التعلم كحالة ذهنية للمجتمع، وضمن تكامل شامل وبجميع الأبعاد (أي الفلسفة، العلم، والفن). هذه هي الحقيقة التي دمرها عصرنا. لهذا الغرض أصبح العلم مدمِّراً هائلاً. وما الدمار النووي على سبيل المثال لا الحصر سوى تعبيراً رمزياً عن حقيقة معينة.تطغى الصبغة الملحمية على العناصر الفلكلورية في المجتمع الكردي. وبما أن الملاحم تتطرق إلى ذكر البطولات، لذا يرجح الاحتمال بأنها متبقية من العهد الهرمي. تَرجِع الألحان العذبة الملحمية لكل من ملاحم "مم وزين Mem ü Zin" و"ممه آلان Memê alan" و"درويش عبدي Derwêşê Avdi"، إلى الموسيقا السومرية. هذا ومن المحتمل أن تكون من صنع الأنساب الهورية في أعوام 4000ق.م، وأتت إلينا عن طريق السومريين. يتميز نظام الرقص والموسيقا الكردي بكونه الثقافة الأكثر زخماً والفن الأسمى في قيمته في منطقة الشرق الأوسط. يمكن مشاهدة الوجود الكردي التاريخي بالأرجح في أنظمة الرقص والموسيقا لديهم. وبالمقدور تدوين الملاحظات المشابهة عن طريق سلوكيات المرأة ومواقفها، نمط لباسها، ورِقّة حركاتها ورشاقتها. ترجع أصالة أنساب الكرد في منبعها إلى العصور الأولى. حيث لعبت الطبيعة القاسية للجبال الوعرة، والمقاومة المستمرة تجاه الغزوات والاستيلاءات المجحفة المتعاقبة؛ دوراً أولياً في تكوّن الماضي العريق لهذه الأصالة.
تلد المدينة من أحشاء المجتمع الطبقي، ليتسارع معها تطور الفن والكتابة والعلم ينبغي الاستفادة من التعليم الرسمي واللغة الأم على السواء وبشكل حر. وحتى لو لم تساعد الدولة على ذلك، فعليها ألا تزرع القلاقل في طريق تأسيس الشعب مؤسساته التعليمية المعنية بلغته وثقافته بإمكانياته الذاتية. يجب العناية بأمور الصحة كخدمة عامة، من قِبَل الدولة ومنظمات المجتمع المدني، والاعتراف بحرية تنشئة المجتمع بالحركات الفنية الحرة، وإمداده بها. لا يمكن إحراز النجاح في أمر ما، ما لم يكن هناك مجتمع أخلاقي. يرتبط اكتساب الأخلاق الحرة بتوعية المجتمع. من هنا، يجب عدم زرع العراقيل أمام انتشار توعية المجتمع. المجتمع الحر مجتمع أخلاقي. يجب عكس هذه المعادلة المتماثلة على كافة الأنشطة داخله. كما يتوجب النقاش حول مكانة الدين في حياة المجتمع، وتنظيفه من عناصره المقيِّدة، وبالتالي، إمراره من الإصلاحات اللازمة، ليتواءم مع العلم والفلسفة العصريين، باعتباره من أقدم تقاليد المجتمع ووجدانه. هذا وإن البلوغ إلى لغة مشتركة بين الدين والفلسفة والعلم وحتى الميثولوجيا، يحتل صدارة العوامل الأساسية، للنفاذ من أزمة الفرد القائمة في راهنناإن القول بارتباط مستوى حرية المجتمعات بمستوى حرية المرأة، إنما هو تحديد صائب. وإذا ما نظرنا من الزاوية الأستتيكية للموضوع، سيتضح بكل جلاء أنه من لا يكون حراً، لن يكون جمالياً. بالتالي، لا يمكن أن تتحقق أيُّ حياة تغيب فيها الجماليات، إلا في حدود فصيلة الثدييات البدائية. سيكون أكثر واقعية ومصيرية أن ننظر إلى ظاهرة المرأة كظاهرة فنية، لا كمُلك أو سلعة، ولا كنظرة العامل أو القروي إليها.تتميز رؤية المرأة كجزء أكثر فاعلية وحساسية ويقظة في الطبيعة، والانتباه إلى أنها تحمل بين ثناياها قدسية بارزة، وعدم مخاطبتها بلغة الرجل المهيمنة، واستيعاب لغتها المفعمة بالألغاز؛ تتميز بأهمية بالغة بالنسبة للحياة الجمالية والأستتيكية. أسوأ الممارسات العملية الاجتماعية، هي هيمنة الرجل وأنانيته المفروضتان على المرأة. ما من شيء يتسم بالقَدَرية بقدر ما يتسم بها موقف الرجل الجلف والفظ، المفروض على المرأة المتروكة تتخبط في حالة عقيمة. بناءً عليه، لا يمكن أن يتحقق وجود الرجل الحر وبالتالي المجتمع الحر المتسم بقدراته العليا، الناضج، الحساس والنبيه، المتساوي والعادل، المستوعب للحرية، وبالتالي الديمقراطي؛ إلا بالامتثال للمقاييس التي عرَّفناها إزاء المرأة، وبمعرفة كيفية تلبية متطلباتها. فالمجتمع الأكثر غوصاً في بحر العبودية، هو ذاك الأكثر ازدراءً للمرأة واستخفافاً بها. كذلك، فالمجتمع الجاهل بكيفية العيش، هو ذاك الذي قَبِل العيش العشوائي مع المرأة. كما أن أكثر أنواع الحياة سوءاً وبلادة ولا مبالاة وبُعداً عن الحماس والنشوة والفهم، هي تلك الحياة المتحققة مع المرأة العبدة. رغم قِدم مفهوم "الشرف"، وتجذره وتصلبه وسريان مفعوله فيما بينكم جميعاً، دون تمييز بين رجل وامرأة؛ إلا إن مفهومي بشأن الحياة الجمالية الثورية لا يتوافق إطلاقاً مع ذلك، ولا مع ثقافة الزواج الرائجة. فالعدالة والحرية والمساواة تطورات ظاهراتية، تبرز بكثرة في طبيعة المرأة. بل والأصح من ذلك هو أن فحوى مجتمعية المرأة يرتكز إلى دعامة العدالة والحرية والمساواة. كما وأنها سلمية إلى أقصى حد. وتدرك تماماً أن حياة ذات معنى، لا يمكن أن تتطور، إلا بوجود هذه المصطلحات الأولية. علاوة على أنها سامية ونبيهة في مصطلح الجمال. ومسألة فرضها القمع واللامساواة في تفضيلاتها واختياراتها، تُناقِضُ طبيعتها وطراز مجتمعيتها. يرتبط مدى فهم كافة هذه الخاصيات بإمكانيات الحركة الحرة لدى المرأة. فكلما تحركت المرأة بحرية، كلما تمكنت من تطوير اختياراتها الجميلة والعادلة والمتساوية. من هنا، فإحياء مصطلحات الجمال والعدالة والمساواة في المجتمع، يمتُّ بصلة وطيدة بتحرير المرأة، ويمر منه. الزيجة البسيطة التي تحصل مقابل ضياع العشق. وأنا لا زلت أجنح إلى خوض صراع العشق، الذي لا حدود له ولا عمر محدد. ومثلما نوهتُ سابقاً، كل من يُسقِط العشق إلى منزلة الشهوة الجنسية، فهو يخونه. العشق في ظروفنا النضالية يعني التحلي بالأمل، الحماس، الإرادة، قوة الإدراك، الطموح إلى الجمال، الجرأة، التضحية، والإيمان المشرِّف اللامحدود اللازم في الحرب والسلم؛ كشرط أساسي لإحراز النجاح في المهام. وصراع الوطنية والحرية والسلام المشرف، الذي هو صراع العشق بعينه، سيجد قوته اللازمة لإحراز الظفر ضمن حقيقة PKK، وسيُخلَق الرجل المتحرر من خلال المرأة المتحررة. لثورة الذهنية شرط أولي من أجل تخطي مؤسسات المجتمع المتحولة إلى عقد كأداء، وإعادة بنائها من جديد. لا تقتصر الثورة الذهنية على هضم الفكر الغربي واقتباسه وحسب. فحتى التطورات المحدودة في هذا الميدان لا تذهب أبعد من كونها رقع مهترئة، بسبب نوعيتها المتمفصلة. فحفظ الفكر الغربي عن ظهر قلب، لا ينمّ عن الإبداع. بل يقود إلى العقم والسقم، مثلما يعيق ظهور الثورات الفكرية المحتملة. ورغم كثرة أعداد الاستظهاريين الحفظيين في الأوساط الموجودة، إلا إنه لا يوجد عالِم اجتماع حقيقي. حيث أن الموجودين منهم ليسوا في الحقيقة سوى طَلَبَة دين معاصرين متزمتين إلى آخر درجة. ذلك أنه ثمة تصوف دارج ومتفشٍ على نحو أكثر رجعية حتى من صوفيي العصور الكلاسيكية. ولو بحثنا عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين المتنورين الحقيقيين بالمجهر والمصباح، لما وجدناهم. ولا يؤمن أحد بوجود ضرورة كهذه. وقد اقتُبِسَت لوازم الغرب الأيديولوجية بأسوأ الأشكال. فسواء كانت النزعة القوموية، أو الليبرالية والاشتراكية من الصياغات الأيديولوجية المعاصرة؛ فهي لا تذهب في أدوارها أبعد من نطاق الرجعية والتخلف في ذهنية المتنورين الشرق أوسطيين. الكل يدرك انطلاقاً من الممارسات والتطبيقات الجارية، استحالة إيضاح الواقع الشرق أوسطي عبر مثل تلك القوالب الشعاراتية. بل وتعرُّضه أكثر للدنس والتلوث من خلالها.ورغم أن الميثيولوجيا والإلهيات السومرية هي الأصلية، إلا أنه حين التمعن فيها وتقييمها بدقة، سيلاحَظ بكل وضوح أنها ترمز إلى "الإله المَلِك" في الحضارة العبودية المزدهرة. وكل الإلهيات اللاحقة لها زادت هذه التكوينة الأصلية جمالاً وزركشة، وقدّمَتْها لأناسها بعد أن طابقتها مع ظروفها المحلية. حمل الفن بكل فروعه، وفي مقدمتها الأدب وحتى العلم والفلسفة أيضاً، بين طياته الآثار العميقة لهذه التقاليد ليصل بها إلى يومنا الراهن. ويالها من صدفة مؤلمة أن تكون الآلهة التي زَجَّ بها كلٌّ من صدام وبوش في ساحة الحرب زاعمَين بأن "آلهتي هي الأقوى"، تمتلك في مكان الاقتتال ذاك، فرصةَ ولادةِ الجديد أيضاً كلما تم الغوص في الظاهرة الكردية وقضيتها، كانت تتحول إلى مأساة إنسانية تراجيدية. وكان يحل بي ما أخاف منه. عندما كنت أدرس الثانوية، كتبتُ موضوعاً إنشائياً أدبياً بعنوان "أنت طفلي الذي لم يولد قط". ومعلمي الذي كنت أقدّره وأوقّره كثيراً، كان يمنحني عشر علامات ويغدقني بالمدح والثناء فوق العادي. وتدريجياً كنت أتنبه بوضوح أكثر مع مضي الزمن إلى أن عدم رغبة أثينا وأوروبا إياي، يتوارى وراءها صراع الذهنية. لم أكن أتقبل الحياة الإقطاعية القائمة، ولا الحياة الأوروبية. ذلك أنهما نظامان لا يمكن أن يلدا أو ينتعشا في شخصيتي. فلماذا سيقبلون هم بي؟ أما الحياة التي أتطلع إليها، فلم أكن أجدها. عندما مررت بالكعبة الموجودة في موسكو، والتي كلّفت الملايين، رأيتهم يقومون بكل مستلزمات إنكار الدين دون الرحم أما المعابد الأخرى وما ظهر بعدها من مراكز الزهد الكبرى، التصوف، بيوت الذِّكْر (البيوت الباطنية)، مراكز التكهن، الصيام والصلاة؛ فهي ليست إلا أشكالاً منحلة ومتطورة عن هذه العادة. وقد تشكلت المنتديات الفنية، المسارح، الأنظمة والقواعد الأدبية- الفلسفية والعلمية، مقتفية الأثر عينه. وهذا ما أود قوله عندما أقول بضرورة عدم استصغارها. أما العلم، الفلسفة، الدين والفن، فلكي يصل بالإنسانية إلى حالة يمكن تحمُّلها. وإذا لم يَفِ هذا بالغرض تبدأ حينئذ ثقافة المجازر المتعاقبة بدءاً من صلب آلاف الأشخاص، ووصولاً إلى إلقاء الكثيرين منهم فريسة سائغة للحيوانات المفترسة في حَلَبات الصراع لتقطعهم إرباً إرباً، ومن قطع الرؤوس إلى تقطيع الأجساد إلى فتات وأشلاء. وبكل سهولة تُنعَت أسفار المجازر على أنها بطولات أو مقدسات إلهية. ويصبح الزج في السجون، وممارسة كل أشكال التعذيب،حالة لا تغيب ولا يقل شأنها قط. أما ما يقع على عاتق الشعوب والإنسانية، فليس إلا الخنوع والخضوع لهذا التاريخ المثير للدهشة والفزع ولدى النظر إلى حرب التحرير والسيادة الوطنية في الأناضول ضمن هذا الإطار، سيكون من المستطاع رؤية العلاقات والتناقضات القائمة بين الثقافتين الشرقية الغربية، بكل عواملها ودوافعها التراجيدية. يتطرق هوميروس في الإلياذة، وناظم حكمت في ملاحمه التحررية الوطنية، إلى هذه الحقيقة، ولكن بلغة فنية شاعرية أخاذة.
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42